التحولات العميقة التي احدثتها الأزمة السورية في مسرح السياسة الشرق أوسطية والعالمية وما هي أدوار: روسيا.. امريكا.. ايران.. الناتو.. دول النفط.. التكفيريين

عندما بدأت الأزمة السورية في 2011 كان هناك تحالف بين أعضاء الناتو ودول النفط العربي يقضي بتغيير النظام في سوريا ضمن مخطط شرق أوسط جديد بمواصفات أمريكية يقودها المحافظون الجدد الصهاينة في الولايات المتحدة و التي كانت تدير الحرب عن بعد بالريموت كونترول . وكان لكل عضو في هذا التحالف هدفه ودوره التقت جميعها في هدف واحد هو تغيير النظام. وبدأت الحرب بالوكالة وقامت مخابرات دول الناتو ودول النفط بتجنيد عشرات الاف المتطوعين إما لاسباب عقائدية، أو كمرتزقة أو كمغامرين وبدأت جوقة الاعلام الغربي و العربي النفطي تعزف على مساوئ النظام السوري، وهي كثيرة، والتي لم يأت هؤلاء أصلا من أجل تغييرها بل من أجل تغيير أحسن ما في ذلك النظام وهو استقلاله الاقتصادي دون تبعية لادوات الاستعمار الجديد كصندوق النقد الدولي، وكذلك سماحه لتنظيمات المقاومة مثل حماس والجهاد الاسلامي، وقبل كل شيء سماحه لعبور المساعدات العسكرية لحزب الله في لبنان، ذلك الحزب الذي لم تستطع إسرائيل بجبروتها العسكري من هزيمته بعد حرب دامت أكثر من 33 يوماً كان نتيجتها خلق توازن ردع بينه وبين تلك الدولة التي هزمت 3 دول عربية في 6 ساعات، والتي أصبحت أنظمة المنطقة أيضاً لا تطيق سماع إسمه فهو يذكرها بخيبتها.

كذلك لم تكن قطر راضية عن رفض سوريا لمشروع الغاز القطري العابر لسوريا لاوروبا ليحل محل أو ينافس الغاز الروسي وذلك لاضعاف الاقتصاد الروسي ولحرمان روسيا من أي قوة تستطيع أن تضغط بها على دول الناتو في أوروبا.

كان تقييم رئيس الاستخبارات الفرنسية في بداية الازمة أن نظام الأسد سينهار بين مدة اقصاها 3- 6 شهور وقد وافقته الاستخبارات البريطانية على ذلك التقييم. في مقابلة مع جريدة لندنية قال رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم “أنهم اعطونا الضوء الأخضر” لنبدأ في الهجمة على سوريا، لكنه لم يقل من هم هؤلاء أصحاب الأضواء الخضر والحمر. أما تركيا فقد صَدّقت تقارير الناتو الاستخبارية وظنوا أنها ما هي إلا شهور ستحصل في النهاية على شريط عازل في شمال سوريا يفصل اكراد تركيا عن اكراد سوريا. ثم انها عضو في الناتو منذ عشرات السنين وأحد أكبر جيوشه ولعل مواكبتها مع حلفائها قد يقربها خطوة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي . وكانت دول النفط في عنفوان تخمتها المالية وبِضْعُ عشرات المليارات من أجل ارضاء الحليف الأكبر واضعاف العدو (الشبح) المتمثل في إيران و الذي وصفه المعلم الأكبر من أيام جورج بوش الصغير هو وسوريا والعراق بمحور الشر، كانت مصر مشغولة بثورة سرقها المجلس العسكري بسذاجة وتعاون قيادة الاخوان المسلمين . وهكذا كان المسرح العربي ناضجاً لنجاح ما فشلت به حرب 2006 على لبنان، واصبح ولادة الشرق الأوسط الجديد بمواصفات امريكية في متناول الأيادي أو هكذا ظنوا . وبعد الظن إثم !

أوشكت الحرب العالمية في وعلى سوريا من انهاء عامها السادس وكانت نتائجها كارثية على الشعب السوري الطيب والشهم والمناضل . كان نتيجة الصراع على سوريا كارثية اذ قُتل ما يزيد عن 500000 من المدنيين والمقاتلين وجرح أضعاف هذا العدد وتدمير البنية التحتية المدنية والصناعية والعسكرية، ولجوء نصف سكان القطر خارج بلدانهم داخل سوريا وخارجها. كلفة الحرب على سوريا من التدمير تقدر بــ250 مليار دولار. وأما فاتوره هذه الحرب والخراب فكانت بعشرات مليارات الدولارات. والمرعب

واللامعقول أن القاتل والمقتول عربي أو مسلم وان تمويل الدمار والقتل كان باموال عربية . وكان كل هذا القتل والدمار باسم الأديان والمذاهب وكل الاديان و المذاهب منها براء. الا أن نتائج هذه الحرب كما بدأ يتضح اصبحت وستكون كارثية على اصحاب النظام العالمي الجديد والصهاينة المحافظون الجدد بل وعلى تاثير هذه الحرب الجيوسياسية على المسرح العالمي كما سنبين أدناه .

بدأ الجهاديون والتكفيريون يتدفقون على سوريا من كل مكان من الغرب والشرق وبعلم من حكومات الغرب التي سهلت لهم اجراءات السفر وكلفته وكانت تركيا ضالعة في هذه المؤامرة. حيث فتحت حدودها لادخال المقاتلين والاسلحة والذخائر بلا حدود .

في سنتي الحرب الاولتين هجر العديد من الضباط والجنود السوريين وحداتهم وانظموا إلى الخارجين على النظام . كذلك كونت تركيا “علاقة وثيقة” مع “جيش الاسلام” وقوامه بين 15000 – 20000 مقاتل، بالإضافة الى فرق أخرى مثل فرقة “عماد الدين زنكي” وقوامها 5000 مقاتل وكونت دول النفط جيوشهم أيضاً بما اصبح جبهة النصرة ثم فتح الشام وتفرع عنها ما يسمى بالدولة الاسلامية .

بحلول سنة 2013 أصبح الخطر يداهم دمشق نفسها مما اضطر النظام السوري مطالبة ايران و حلفائها في مارس 2013 بالتدخل. أوقف ذلك التدهور في موقف الدولة السورية الا ان تدفق المقاتلين الاجانب والاسلحة بقيت على وتيرةً مرتفعة مما جعل القيادة السورية وحلفائها تفكر بالانسحاب من الارياف للحفاظ على المدن الرئيسية فقط . وفي بدايات سنة 2015 بدأ الامريكيون والغربيون يتحدثون عن تفكيك سوريا بإعتبار ذلك قد اصبح امراً مفروغاً منه .

في ابريل 2015 قررت ايران ارسال رئيس فرقة القدس من الحرس الثوري قاسم سليماني الى موسكو ليشرح الوضع الحرج في سوريا . وكانت قوات المقاتلين الاجانب قد احتلت كسب وادلب بمساعدة تركيا مباشرة بل وقصف التكفيريون القاعدة الروسية في طرطوس . كذلك وجدت روسيا مصلحةً لها في التدخل للحفاظ على قاعدتها الوحيدة تلك على شواطئ البحر الابيض المتوسط . وكذلك محاربة التكفيرين من دول الاتحاد الروسي المسلمة على الأراضي السورية قبل رجوعهم الى بلادهم . يضاف الى ذلك ضمان نفوذ روسي لعرقلة مشروع الغاز القطري عبر سوريا الى اوروبا . فقبلت التدخل على اساس تقديم الدعم الجوي والاستخباراتي وأن تقدم سوريا وايران وحلفائهما ما يلزم من جنود على الأرض . كان هدف روسيا في البداية إعادة التوازن الى ارض المعركة بين القوى المتحاربة لتفسح المجال لحل تفاوضي وقبول الاسد طرفاً في هذا الحل .

كان التدخل الروسي حاسماً . وبعد شهور من التدخل خفتت الأصوات المنادية بتقسيم سوريا وبالغاء دور الأسد. لكن الحدث الأهم الذي سيسجله تاريخ هذا الصراع كان إسقاط تركيا طائرة السوخوي الروسية في 24 نوفمبر 2015 . حينها غيرت روسيا سياستها من المحافظة على التوازن العسكري إلى الحاق هزائم عسكرية في القوات المعادية للحكومة، فجآت بأنظمة دفاع جوي متطورة وحشدت قوات كبيرة إلى أن وصلت الامور إلى إستعادة حلب لسلطة الدولة. فتم تغيير موازين القوى العسكرية على الارض لصالح الدولة . ووجدت روسيا ان ذلك سيجعل الدولة السورية في موقف تفاوضي أفضل.

رحلة أوردغان في السياسة الاقليمية والدولية غيرتها الحرب في سوريا تغييراً جذرياً حيث أنه قد توصل الى النتيجة ان الغرب قد ورطه في هذه الحرب، وبدلاً من عزل اكراد سوريا تحالفت معهم الولايات

المتحدة . ومما زاد الطين بلة أن توصل إلى النتيجة أن الغرب وعلى رأسه أمريكا هم من قاموا بمحاولة الانقلاب عليه بل وتصفيته . كانت قيادة الانقلاب العسكرية في قاعدة انجرليك حيث توجد قيادة قوة أمريكية عسكرية كبيرة وكانت طائرات الــf16 تقلع منها لقصف البرلمان التركي ومواقع الموالين لنظام اوردغان كما كان الرأس المدبر للانقلاب جولين يسكن في الولايات المتحدة وبحماية أجهزتها الأمنية . عندها قام اوردغان بالاستدارة 180 درجة في سياسته واجتمع مع الرئيس بوتين واعتذر عن اسقاط الطائرة الروسية وبدأ تحالفاً اقتصادياً وسياسياً مع روسيا . وبمجمل التغييرات العسكرية على الأرض خصوصاً بعد حلب وهزائم التكفيرين وتغيير السياسية التركية والتي سحبت أكثر مؤيديها من شرق حلب لينضموا الى قواتها في ما اسمته درع الفرات. وهكذا أصبح الكلام عن تقسيم سوريا أقرب منه للتمنيات منه للواقع . لكن ذلك لن يمنع من استمرار المحاولة ما دام القاتل والمقتول عربياً او مسلماً وما دام من يدفع فاتورة القتل والتدمير عرباً .

كان “التآلف لكي لا نسميه التحالف” الروسي التركي الايراني بشأن القضية السورية هي آخر ما يتمناه المحافظون الجدد الصهاينة القابضين على السلطة في الامبراطورية الامريكية وكان هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

كان نتيجة الحرب على سوريا على عكس ما تمنى اصحابها ومن قاموا بها. خرجت روسيا من تقوقعها الى مسرح الشرق الاوسط والمسرح العالمي كلاعب دولي استراتيجي هام يشارك الامبراطورية في قراراتها المصيرية بل ويقف لافساد مشاريعها في الامم المتحدة . كذلك افسد على المحافظين الجدد (احاديتهم). خرج حزب الله اقوى مما كان عليه. غيّرت تركيا سياستها 180 درجة . لم يعد انضمامها الى الاتحاد الاوروبي من اولوياتها بل ولربما ستنسحب من عضويتها في الناتو بالرغم من خطورة هذا القرار عليها لما سيثيره من زلزال جيوسياسي . تَقَوَى التحالف الروسي الصيني وأصبح مشروع طريق الحرير الجديد الذي يصل الصين بالبحر الابيض المتوسط واوروبا أقرب من أي وقت مضى . واخيراً وليس آخراً تبين أن مخططات وأوامر الامبراطورية الامريكية هي ليست قضاءً وقدراً وأن امبراطوريات العصر كما في امبراطورية الاتحاد السوفيتي تكون احياناً اوهى من بيوت العنكبوت . ولذلك كله انعكاسته الكبرى على مستقبل وديمومة دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين .

إذا غيرت تركيا في شمال سوريا سياستها 180 درجه فهل ينبغي على الاردن إعادة دراسة سياساتها ؟ قد يكون معقولاً ان نسأل ؟ ماذا فعل للاردن من أشعلوا نار الفينة في سوريا لمساعدته في تحمل آثار اللجوء السوري على الاقل؟ ماذا فعل هؤلاء لسد عجز الدولة المالي و ماذا فعلوا بشأن المديونية الاردنية التي تضاعفت في سنوات الأزمة السورية وتسببت في فرض سلسلة من قوانيين الجباية و الضرائب التي اثقلت كاهل المواطنين في الاردن ويمكن أن ينتج عنها نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية لا يتمناها أي مواطن غيور على وطنه؟ ثمّ هل الجماعات الارهابية التي نشطت في الاردن مؤخراً جاءت من الهلال الشيعي أم جاءت من غيرهم من التكفيرين وكنتيجة للازمة السورية علماً بأن الاردن كان دوماً مضرباً للامثال للتعايش بين المذاهب والطوائف والاديان .

سينقسم الشرق الوسط الجديد إلى معسكرين: معسكر أمريكي اسرائيلي غربي واتباعهم، ومعسكر ينضم إلى المحور العالمي الثاني الذي يتشكل اليوم المتمثل في محور الصين، روسيا، وبلدان أوراسيا أو ما

يسمى بطريق الحرير الجديد. وسيشتد الصراع بين المحورين واشتدي أزمة تنفرجي! لكن الأكيد أن سياسات ” اليوم خمر، وغداً أمر” لن يكون لها مكان في هذا الصراع.

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل