استيلاء امريكا على النفط العربي وخلافتها للامبراطورية البريطانية.. وكيف كانت شركات النفط الأجنبية تُحدد أسعار وكميات انتاجه دون علم الدول المنتجة!
مع أن بريطانيا قد ربحت الحرب العالمية الاولى بمساعدة الولايات المتحدة إلا أنها خرجت منهوكة القوى وبخزينة شبه خاوية وكان ذلك بداية نهاية امبراطوريتها العالمية.
يفسّر الجيوبوليتيكي البريطاني بيتر جيه. تيلور الحربين العالميتين على أنهما “مبارزتان بين ألمانيا والولايات المتحدة على وراثة النظام الجيوبوليتيكي البريطاني . وتُفصِل وقائع الاجتماعات السرّية والتي عُقدت بين وزارة الخارجية الأميركية والمجلس الأميركي للعلاقات الخارجية بدءاً من العام 1939 ، تفصّل بوضوح دور الولايات المتحدة كوارثٍ لبريطانيا جاء في أحدى وثائقها : ” إن الامبراطورية البريطانية على الحال الذي كانت عليه في الماضي لن تعاود الظهور أبداً .. وتوجّب على الولايات المتحدة أن تأخذ مكانها.”
كانت الفترة مابين الحربين العالميتين هي الفترة الانتقالية وكانت هذه الفترة ايضاً فترة الهيمنة الامريكية على النفط العربي والشرق اوسطي بدءاً بحصة الربع في شركة نفط العراق الى حصة النصف في شركة الكويت والى مئة في المئة من ملكية شركة نفط البحرين ثمّ نفط السعودية .
كان أعضاء كونسورتيوم آي. بي. سي. قد اتفقوا على السيطرة على نفط الشرق الأوسط ، فيما يعرف باتفاقية الخط الأحمر . لكن شركة ستاندارد أويل أوﭫ كاليفورينا(SOCAl) ، لم تكن جزءا من آي. بي. سي ، ويمكنها أن تقوم باستكشافاتها النفطية الخاصة بها . في عام 1929 أرسلت الشركة فرد أليكساندر ديـﭭيس إلى البحرين لتقييم احتمالات التنقيب هناك وفي الحسا، في شبه جزيرة العرب .
وعقدت الشركة صفقةً مع ابن سعود تمت بمساعدة من قبل دبلوماسي بريطاني سابق هو هاري سانت جون فيلبي ، والذي أصبح مستشاراً مقرّباً وموثوقاً للحاكم السعودي.
وبدت الصفقة – لابن سعود – جذّابة للغاية إذ كان بلده الناشىء في ذلك الوقت يعتبر من أفقر بلاد العالم ، وبدون أي بنيةٍ تحتيةٍ تذكر. وتضمنت الشروط النهائية التي توسط فيها فيلبي ، دفعة مقدمّة لابن سعود مقدارها 5000 جنيه استرليني ذهباً مقابل استئجار الأرض اللازمة لأعمال الإستكشاف وإنتاج النفط ، 30% من كل أرباح أي اكتشافات ، فضلاً عن 100000 جنيه استرليني تدفع ذهباً ومقدّماً عن تلك الأرباح . وسرعان ما استعمل الاميركيون فيلبي مستشارا لهم بأعطياتٍ مجزية.
وبعد أن عثرت شركة SOCAL على النفط في البحرين على عمق 2000 قدم تشكلت في جزيرة العرب شركة جديدة هي شركة ستاندارد أويل الكاليفورنية العربية ( والتي أصبحت فيما بعد شركة الزيت العربية الأمريكية – أرامكو ) ، وتمّ ضخ النفط إلى الناقلة الأميركية سكوفيلد في أيار 1938 كأول شحنة نفط من العربية السعودية إلى أميركا .
لم يبقى مكان في الشرق أوسط لم تتملك به الولايات المتحدة وشركاتها جزءاً من كعكة النفط سوى نفط ايران الذي كان مملوكاً بالكامل من بريطانيا ولكن الى حين!
اوصى البرلمان الإيراني بتأميم شركة النفط المملوكة بالكامل من بريطانيا واختار “المجلس″ مصدق رئيساً للوزراء مع تخويله صلاحية تأميم الشركة الانجليزية في الحال ، ووقع الشاه القانون وحل محلّها شركة النفط الوطنية الإيرانية وأصبح نافذاً من 1 أيار 1951 . رأى الاميركيون في تأميم النفط الإيراني فرصة كانوا ينتظروها. فتم الإطاحة بمصدّق في انقلاب عرف باسم ” العملية آجاكس ” ، والتي نسقتها وكالة الاستخبارات الأميركية مع نظيرتها البريطانيةMI6
وتمّ تخفيض حصة بريطانيا في نفط ايران من 100% الى 40% وتمّ زيادة حصص الشركات الامريكية من صفر الى 40% في كونسورتيوم جديد . بينما منحت شل 14% وسي. إف. بي. الفرنسية 6% . وكان القصد واضحاً وهو أن جميع شركات النفط العاملة في الخليج سوف تسيطر مجتمعة على إنتاج النفط من الخليج ، وفي أثناء فترة التأميم قوطع النفط الإيراني من قبل المستوردين ، وازدادت صادرات النفط من بلدانٍ خليجية أخرى من أجل إبقاء حجم النفط الذي يخرج من المنطقة ثابتاً ، وقُيّض لهذا التواطؤ بين شركات النفط الرئيسية ، بشأن اتخاذ القرار حول عرض النفط على المستوى العالمي ، أن يستمر ، دون معرفة البلدان المنتجة نفسها . وعندما أصدر عبد الكريم قاسم سنة 1960 قانونه بتأميم جميع مناطق الامتياز التي لم يجر فيها الاستكشاف بعد ، قاطع حاملو أسهم شركة بترول العراق النفط العراقي ، مما أدى إلى خسارة العراق لعوائده النفطية ، بينما عوّض مساهمو شركة اي بي سي الإنتاج وعوضوا عن خسارتهم لانتاج العراق من امتيازات أخرى في الخليج ، واستُعمِل هذا التكتيك ثانيةً عندما قوطع الخام العراقي والكويتي بعد غزو العراق للكويت في حرب الخليج الأولى.
لعلّ اكثر تصديقاً لمقولة الجاسوس لورنس (بأن التاريخ هو سلسلة من الاكاذيب تمّ تصديقها ) هو ما يشاع ويكتب عن رئيس العراق الاسبق عبد الكريم قاسم.
جاء في كتاب “مذكرة جندي” للقائد الاردني الكبير صالح الشرع :
” في 3/2/1949 نشبت معركة محلية بين كتيبة عراقية في منطقة كفر قاسم (فلسطين )واليهود في رأس العين . كان قائد الكتيبة المقدم عبد الكريم قاسم وقد قابلته لمعرفة تفصيلات المعركة وعرفت أنه احتل موقع راس العين من اليهود ومرزعة مجاورة كانوا يتمركزون فيها. وامتنع عن الخروج من هناك رغم قيام الهدنة . وحينما جاء امر الانسحاب من قائد لوائه الزعيم نجيب الربيعي اجاب عبد الكريم قاسم على برقيته قائلاً : انا لا انسحب الا الى بغداد ، وبقي في مكانه الى ان انسحب الجيش العراقي عائداً الى بغداد … في9/3/1949 تقرر سحب الجيش العراقي بعد اتفاقيات رودس . تقرر ان تستلم الكتيبة الخامسة من الجيش الاردني مكان الاماكن المتقدمة من الجيش العراقي وقوامها فرقة ! … في 13/5/1949 أخذتُ قادة سرايا الكتيبة واجرينا الكشف على المنطقة في باقة الغربية الى كفر قاسم . وكان قائد الكتيبة العراقية عبد الكريم قاسم. سألني عن معلومات عن اتفاقية رودس وهل ستكون قرية كفر قاسم داخلة في الحيز اليهودي بموجب تلك الاتفاقية … فأجبته بالايجاب … فنادى على احد السرايا وطلب فئة الاشغال وكانت في كفرقاسم مقبرة صغيرة تضم اثنين وعشرين شهيداً سقطوا اثناء معركة راس العين وفي حوادث متفرقة أخرى ، فأمر بفتح قبورهم واخراج جثثهم ونقلها الى مقبرة الشهداء العراقيين الواقعة على مفرق طريق جنين – قباطياً ، وقال: أنا اسلمكم المواقع ولكني لا اترك جنودي الاموات لتدنس مقابرهم اقدام اليهود . كان امام قيادة الكتيبة تمثال اقامته الكتيبة يسمونه تمثال النصر . امر بهدمه وتم ذلك ايضاً ” في سلسلة
المآسي التي واكبت حرب فلسطين الاولى أنه ” في اتفاقية رودس تم تسليم 212 الف دونم تضم سبعة عشر قرية دون اي قتال مع اليهود.”
محمد حسنين هيكل كتب في مقالة له سمعتها من راديو القاهرة نقلاً عن مقالاته الشهيرة آنذاك بعنوان ” بصراحة” جاء فيها أنه خلال اجتماع مع الملك حسين في اوروبا أخبره الملك حسين أنه يعرف معرفة اليقين أن الانقلاب الذي اطاح بعبد الكريم قاسم كان انقلاباً امريكياً تم توجيه الانقلابين من محطة المخابرات المركزية الامريكية باللاسلكي بالكويت، وان اسماء من أُستهدِفوا من الانقلاب – كانت تأتي اسماءهم مع عناوينهم عبر ذلك المركز باللاسلكي . مصادر عديدة قرأتها لاحقاً اكدت هذه المعلومة .
كان قراران لعبد الكريم قاسم تجاوزا الخطوط الحمر: اصداره لقانون النفط رقم (80) والذي امم فيه وسحب امتياز كافة الاراضي العراقية غير المستغلة من شركات النفط الاجنبية ليتم استغلالها من شركة نفط وطنية عراقية. أما الخط الاحمر الثاني كان حكمه عبارة عن تآلف من تيارات مختلفة بما فيها تيارات يسارية .
جاء من بعده ليقيموا وحدة وحرية واشتراكية وما اقاموه معروف لديكم .
في عام 1928 وَقّع عمالقة النفط “اتفاقية الوضع الراهن” (as-is) أو اتفاقية آكناكاري Achnacarry والتي اتفقوا بموجبها على إنهاء المنافسة فيما بينهم ، ووقف فائض الإنتاج وتقسيم أسواق العالم على أساس ” الوضع الراهن” ، كما اتفقوا على أشياء أخرى . واستعملت هيئة التجارة الاتحادية الامريكية صلاحيتها للحصول على وثائق الشركات ، وحسب الأصول توصلت إلى إنتاج أكثر التحليلات التاريخية تفصيلاً للعلاقات الدولية بين الشركات . ويُعتبر التقرير وعنوانه ” كارتل البترول الدولي ” معلماً ودراسةً مميزة . وأرادت كلّ من وكالة المخابرات المركزية ووزارتي دفاع وخارجية الولايات المتحدة الأميركية تطويق التقرير على أساس مصلحة الأمن القومي ، مدّعين بأن المعلومات التي يتضمنها يمكن لها ” ان تساعد والى حد كبير الدعاية السوﭭياتية ” ، كما أن الناس في البلدان المنتجة سيكونون غير سعداء بمضمونها ، وخاصة حقيقة أن معدّلات الانتاج – والتي تشكل موردهم وعوائدهم الأساسية – انما تقررها الشركات الاجنبية دون علمهم ، وبذا تُشكل انتهاكاً لسيادتهم . أما الرئيس ترومان فصنف الوثيقة على أنها سريّة للغاية ، بينما قررت ادارة العدل أن التقرير يشي بوجود كارتل نفطي يعود بتاريخه إلى عام 1928 ، مما يستدعي اتخاذ إجراء قانوني .
وتأسيساً على توصية رئاسة الأركان ومجلس الأمن القومي ، وقبل أيّام قليلة من انتهاء رئاسته في كانون ثاني 1953 ، طلب ترومان من إدارة العدل التخليّ عن تحقيقاتها الجنائية ضد الشركات المتآمرة .
أصاب عالم الجيولوجيا الأميركي إيفيرت دوغولير (Everett de Golyer) كبد الحقيقة من البداية، حيث كتب في أحد تقاريره بعد حملته الجيولوجية في شبه الجزيرة العربية: “إن مركز الجذب لعالم إنتاج النفط ينتقل من الخليج (خليج مكسيكو) في منطقة حوض الكاريبي إلى الشرق الاوسط إلى منطقة خليج الفرس، ومن المرجح أن يستمر هذا الانتقال حتى يثبت في شكل نهائي في تلك المنطقة.” لهذا أرادت الحكومة الامريكية استملاك نفط الجزيرة العربية مباشرةً وليس عبر شركات النفط. وسيكون هذا موضوع المقال القادم .
مستشار ومؤلف وباحث