ما الذي يحدث هذه الأيام؟ أهو صراع على أسعار سلع كالنفط مثلا، أم هو حرب إقتصادية سياسية عالمية شاملة بين الولايات المتحدة واتباعها من جهة ، تستعمل فيها كل الأدوات الاقتصادية و السياسية المتاحة للمحافظة على نظام أحادي مهيمن مأزوم ضد دول تحاول الانعتاق من تلك الهيمنة من جهة أخرى؟ هل صحيح أن النظام السياسي والاقتصادي الذي تدافع عنه الولايات المتحدة مأزوم؟

د. عبد الحي زلوم

بداية أقول أن النظام الاقتصادي والسياسي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة مأزوم حقاً. دعني اقتبس ما يقوله خبراء من صميم المنظومة الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة.

فلنبدأ بالأزمة الاقتصادية

بيّنا في مقالنا السابق أن أسباب سقوط أسعار النفط يرجع إلى أسباب سياسية وإقتصادية لتحفيز الاقتصاد الأمريكي والعالمي المأزوم والذي هو على شفير السقوط وتهديد النظام المالي العالمي برمته . ولبيان عمق الأزمة الاقتصادية الرأسمالية نورد ما صرح به وليم وايت William White وهو من ايقونات الاقتصاديين حيث عمل كبيراً لاقتصادي بنك التسويات الدولية Bank for International Settlements (BIS)في سويسرا، وهو بنك البنوك المركزية العالمية ومرجعها . في مقابلة مع جريدة التلغراف بتاريخ 20/1/2016 بعنوان العالم يواجه موجة انهيارات مالية و أزمة حالية قد تكون أكثر عمقاً من ازمة 2008 قال وليام وايت وهو الآن رئيس لجنة المراجعة في منظمة التعاون والنمو الاقتصادي OECD:"إن النظام المالي العالمي قد اصبح غير مستقر بشكل خطير مما سيتسبب فيضاناً من الافلاسات والتي سيكون لها نتائج اجتماعية وسياسية خطيرة ... " وأضاف "إن الوضع هو أخطر من سنة 2007 فكافة وسائلنا لمكافحة هذا الانهيار قد استنذفت … لقد تمّ تنامي الديون خلال السنوات الثمانية الاخيرة في كافة بقاع العالم وقد وصل الدين الى مستوى في كافة ارجاء العالم بحيث اصبح مشكلة كبرى ... أن السؤال الوحيد هو امكانية ان نواجه المشكلة بشكل مباشر ومحاولة معالجتها بشكل منتظم والا فستحدث بشكل غير مسيطر عليه ... وسوف يواجه المقرضون الاوروبيون أكبر المشاكل بالنسبة الى قروضهم… إن الامور سيئة للغاية بحيث لا يوجد جواب صحيح للمشكلة. إن رفع الفائدة سيكون خطيراً واذا لم يرفعوها فستزادٌ الامور سوءاً .”

لعلّ تحذير هذا الاقتصادي الكبير يزدادُ وزنه وخطورته لانه قد حذر بين سنوات 2005-2008 بأن النظام المالي الغربي يسيرُ نحو السقوط وأنه سائرٌ الى ازمات خطيرة . ويقول إن الدين العام والخاص قد وصل الى مستويات غير مسبوقة تساوي 185% من الدخل الاجمالي (GDP) في الاقتصادات الصاعدة و 265% من الدخل الاجمالي (GDP) لدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وكلاهما يزيد 35% من عن 2007. كذلك نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن منظمة العمل الدولية ILO في 19/1/2016 أن معدل البطالة قد زاد في 2015 عن السنة السابقة وان التوقعات للسنتين القادمتين سيزدادُ سوءاً . أنا اتفق تماماً مع ما قاله وايت، بل أن أول صفحة من كتابي الصادر 2008 كان يقول أن الأزمة ليست أزمة عابرة لكنها أزمة النظام نفسه لذلك كان إسم الكتاب " أزمة نظام/ الرأسمالية والعولمة في مأزق". جاء في الصفحة الاولى ما يلي: · في كتابي نذر العولمة سنة 1998 ، بيّنتُ أن النظام الرأسمالي المالي قد ركب ثورة المعلومات لينتج عنه اقتصاد سميته بالنظام المعلومالي ، بحيث أصبح هناك اقتصادان : اقتصاد حقيقي منتج، واقتصاد طفيلي معلومالي يعيش على المضاربة على الاقتصاد الحقيقي ليربكه وينهكه، وليحول أسواق المال إلى كازينوهات للمقامرة تصب في جيوب بارونات المال العالميين في وول ستريت. · وبين ذلك الكتاب بأن هذا النظام الطفيلي قد تم فرضه على العالميين تحت اسم العولمة ، وتم مهاجمة جميع الأنظمة المغايرة لهذا النظام المعلومالي الأنجلوساكسوني بوتيرة تسارع بعد انبعاج الاتحاد السوفيتي . وكانت مؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة أدوات استخدمت في عملية التطويع هذه تحت اسم العولمة – والتي عرفتها في محاضرة لي في جامعة هارفارد بأنها العملية التي تسعى لتطويع الدول لتصبح جمهوريات موز في خدمة الإمبراطورية الأمريكية وبارونات المال العالميين. · في كتابي إمبراطورية الشر الجديدة (2003) بينتُ أن الاقتصاد الأمريكي خرج من التسعينات من القرن الماضي منهكاً بفقاعة اقتصادية كانت أشبه بفقاعة العشرينات من القرن الماضي التي سبقت الكساد الكبير . وأوضحت أن ما أسمي الحرب على الإرهاب أو ما يسميه آخرون حرب الإرهاب كان حروباً لمحاولة الهروب إلى الأمام من تلك الفقاعة. · في كتابي حروب البترول الصليبية (2005) ، بينت في فصل الكتاب الأخير وعنوانه "الإمبراطورية الأمريكية : نهايتها بأزمة قلبية اقتصادية" بأن الاقتصاد الأمريكي غارق ومدمن على الديون ، والتي وصلت إلى حدود غير مسبوقة لا يتحملها أي اقتصاد، وتنبأته بأن فقاعة العقارات ستكون الشعرة التي ستقصم ظهر البعير. · في هذا الكتاب "أزمة نظام" بينت أن هذا النظام قديمه جديد وجديده قديم ، يعيش على الحروب والسلب لثروات الشعوب، وأن "تاريخ صلاحيته" قد انتهت، وأن نظاماً اقتصادياً سياسياً اجتماعياً آخر أصبح الآن مطلباً عالمياً، وهو في مرحلة آلام المخاض في هذه الأيام. لقد تم ولادة نظام بديل هو نظام بركس بقيادة روسيا والصين وهذا ما تحاربه الولايات المتحدة بكل الوسائل حرب حياه أو موت. ولكن لماذا؟ لان مجرد وجوده يتناقض كليا مع نظام العولمة الأمريكي الذي لا يقبل إلا بالاحادية الأمريكية كنظام عالمي جديد. كانت أخر حركة للانعتاق من مؤسسات الهيمنه الأمريكية تأسيس الصين مع 40 دولة أخرى رديفاً للبنك الدولي باسم البنك الأسيوي لاستثمارات البنى التحتية AIIB وقيام روسيا بمحاولات إطلاق بديل لمقياس برنت لأسعار النفط.. إذن ما هو النظام الذي تفرضه الولايات المتحدة على العالم والذي تشن الحروب ضد من يتحداه؟

كانت وثيقة وولفوتز Wolfowitz الأولى من نوعها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لترسم صورة جديدة لعالم فيه قوة عظمى وحيدة يتوجب على قادتها الحفاظ على آليات كفيلة بردع أي منافسين محتملين عن التطلع للقيام حتى بدور إقليمي أو عالمي من أي نوع . وفيما يلي بعض الأجزاء الهامة من الاستراتيجية الإمبريالية العالمية كما وضعها وولفوتز عام 1992 ، بهدف الحيلولة دون "إعادة ظهور منافس جديد للولايات المتحدة: " أهداف الاستراتيجية الدفاعية : سيكون هدفنا الرئيسي الحيلولة دون ظهور منافس جديد ، سواء في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق أو في أي مكان آخر، منافس قد يشكل تهديداً مماثلاً لما كان يشكله لنا الاتحاد السوفياتي من قبل . إن هذا الهدف يشكل أساساً للاستراتيجية الدفاعية الإقليمية الجديدة ، ويتطلب منا العمل على منع أي قوة معادية من الهيمنة على منطقة تملك من المصادر ما يكفي لتغذية ولادة قوة إقليمية ، وتشمل هذه الأقاليم كلاً من أوروبا الغربية وشرق آسيا ، دول الاتحاد السوفياتي السابقة وجنوب غرب آسيا. التهديدات والمخاطر الإقليمية : مع انتهاء التهديد العسكري العالمي للمصالح الأمريكية الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي ، بدأت تهديدات إقليمية في الظهور، بما فيها صراعات محتملة في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق ، حيث ستبقى هذه التهديدات مبعث قلق أمريكي رئيسي في المستقبل ، وستظهر هذه التهديدات على الغالب في مناطق تشكل أهمية كبيرة بالنسبة لأمن الولايات المتحدة وحلفائها ، بما فيها أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا ، ومناطق الاتحاد السوفياتي سابقاً . كما أن لأمريكا مصالح كبيرة في أمريكا اللاتينية والصحراء الأفريقية ، حيث ستعمل الولايات المتحدة على منع سيطرة أي قوة معادية على هذه المناطق الرئيسية". جاءت استراتيجية البنتاغون المعدة من قبل وولفوتز عام 1992 شاملة ومفصلة ، بطريقة توضح تماماً حقيقة أن السياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، صيغت بتخطيط مسبق بهدف خلق القرن الأمريكي الجديد وامبراطوريته العالمية . وفي الوثيقة الخطيرة التي أعدها عام 1992 ، يتحدث وولفوتز عن سياسة واشنطن اتجاه المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية للمصالح الأمريكية ، نورد منها المقتطفات المحددة التالية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا : " إن هدفنا الإجمالي في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا هو إبقاء المنطقة خارج نفوذ أي قوة إقليمية ، والحفاظ على حرية وصول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إلى نفط المنطقة. كما نسعى أيضاً إلى ردع أي عدوان في المنطقة ، وتعزيز الاستقرار الإقليمي وحماية المواطنيين والممتلكات الأمريكية والحفاظ على حقنا في استخدام الأجواء والممرات المائية الدولية . وكما تبين من الغزو العراقي للكويت ، فإنه يبقى من الأهمية بمكان الحيلولة دون وقوع المنطقة تحت هيمنة قوة أو تحالف قوى إقليمية ، وبخاصة فيما يتعلق بشبه الجزيرة العربية . ولهذا يتوجب علينا الاستمرار في لعب دور من خلال تعزيز سياسة الردع وتطوير التعاون الإقليمي". وفي هذا الصدد ، أبلغ الجنرال شوارزكوبف ، الذي قاد الهجوم على العراق عام 1991 ، الكونغرس قبل ذلك بعام بالقول " نفط الشرق الأوسط هو دم الحياة بالنسبة للغرب ، فهو مصدر الطاقة لنا حالياً ، ويشكل 77% من الاحتياطات النفطية في العالم الحر ، وسيبقى مصدرنا للطاقة عندما تجف المصادر الأخرى في العالم " ولكن ما هي انعكاسات كل ذلك على منطقتنا؟

أنظمتنا ما هي سوى أحجار شطرنج في أيدي أصحاب النظام العالمي والذين يستعملون مواردنا النفطية والمالية في حربهم للمحافظة على ديمومة هيمنتهم وأحاديتهم ويقوم البعض منا بادارة حروب بالوكالة من حيث يدرون أو لا يدرون، فأصبحت مواردنا من بترودولار وبشر وحجر مفعول بنا لا فاعلين. واكتفينا باختزال مشاكلنا بحرب بين الشيعة والسنه وإنشغل)علماؤنا ) الأفاضل لاثبات أن الأرض مسطحة لا تدور وكفى الله المؤمنين القتال. ولكن ما هي النتيجة: والعالم إلى أين؟ قبل محاضرة لي في جامعة هارفارد بمركز دراسة الشرق الأوسط بتاريخ 18-3-2008 قلت فيها أن العالم يقف على رأسه وأن هذا الحال لا يدوم، ألقى ما يسمونه بمؤرخ القرن العشرين المؤرخ العالمي المشهور Eric Haubsawm بجامعة هارفارد أيضاً بتاريخ 20 اكتوبر 2006 وهذا ملخص ما جاء بمحاضرته "لربما تسبب الإمبراطورية الأمريكية الفوضى والبربرية بدلاً من حفظ النظام والسلام". وقال "إن هذه الإمبراطورية سوف تفشل حتماً"، ثم أضاف "هل ستتعلم الولايات المتحدة الدروس من الإمبراطورية البريطانية أم أنها ستحاول المحافظة على وضعها العالمي المتآكل بالاعتماد على نظام سياسي فاشل وقوة عسكرية لا تكفي لتنفيذ البرامج التي تدّعي الحكومة الأمريكية بأنها قد صممت من أجلها ؟". فما نراه من بربرية باسم الحضارة، وقتل واغتيالات دون محاكمة باسم حقوق الانسان قد انكشف أمره ولكن إنهيار الامبراطوريات تصحبه حروب عالمية أحيانا وهذا ما نراه اليوم. أنها حروب طحن عظام لتشكيل نظام عالمي جديد ونحن كالزوج المخدوع أخر من يعلم مع أن بلادنا هي من أهم مسارح هذه الحروب.

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل