لو سألتَ لماذا تثقب بنتك أوأختك بنطالها أو لماذا عرض ربطة العنق اليوم عريضة وغداً ضيقة .. فالجواب أنها الموضة، وهي جزء من الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية لاستغلال العالم! ما هي العواقب الكارثية لذلك ؟

د. عبد الحي زلوم

بعد الثورة الصناعية اصبحت المشكلة خلق المستهلكين لا المنتوجات ووجد تآلف راس المال والأكاديمية الاميركية ان الحل يكمن في اطلاق الشهوات والمجتمعات الاستهلاكية مخالفة للأديان التي جاءت لتهذيبها مستغلين سيطرتهم على الاعلام فكان اغبياء العالم واولهم العرب سباقون الى هذه الثقافة .

كان سرور قريبي المرحوم الشيخ عزات شديداً حين جاءت موضة الماكسي (maksi) وصارت ملابس النساء تصل الى اكعابهن فقال : الحمد لله الذي هدى نساء المسلمين لهذا . وعندما جاءت موضة الميني (mini) صارت ملابسهن لما فوق الركب. استغرب الشيخ عزات هذا الانقلاب المفاجئ لنساء المسلمين من محتشمات الى (كاسيات عاريات) بين عشية وضحاها . فسألني ما الامر ؟ فقلت له هذه هي الموضة يا شيخ وهي احدى بنات ثقافة الاستهلاك التي جاء بها الغرب . قال الشيخ عزات : الا لعنة الله على هذه الثقافة وبناتها وابنائها وآبائها وأمهاتها .

ايام الشيخ عزات بل وفي ايامي في أول عقدين من عمري كانت الثقافة السائدة هي كما كانت في الولايات المتحدة في بدايات الثورة الصناعية في امريكا وحتى بداية القرن العشرين . كان وصف الرئيس الامريكي هوفر للحياة في قرية اميركية صغيرة قبل بدء ثقافة الاستهلاك، في غاية التشويق والامتاع لان هذا الوصف جاء من رجل بذل جهوداً مضنية لتغيير تلك الثقافة خدمةً لمافيا المال التي أوصلته الى الرئاسة. وقد ألقي هذا الخطاب خلال حملته الانتخابية عام 1928 للرئاسة الاميركية . وكان يقوم بزيارة لقريته ومسقط رأسه ويست برانش West Branch بولاية ايوا Iowa وهي قرية كان يقطنها عام 1880 ما لا يزيد عن 800 نسمة . . قال هوفر "في الثمانينات من القرن الماضي كان الناس يتقاسمون المسرات وكانت القرية تتمتع بالاكتفاء الذاتي حيث كانت تزرع القمح والذرة وتطحنها في مطاحنها ، وكانت مكتفية ذاتياً فيما يتعلق باللحوم والمنسوجات والاقمشة . وكنا نقوم بأنفسنا بإصلاح المحركات وكنا نحصل على الوقود من الخشب . كما شيدنا البنايـات وصنعنا الصابون اللازم لنا وحفظنا الفواكه وجففناها وانتجنا الخضروات . وكان الشيء القليل فقط من لوازم العائلة يتم شراؤه من الخارج" . وقال انه في طفولته لم يكن الفقر معروفاً في قريته ويست برانش ، وكان الناس فرحين دائماً يشعرون بالسعادة ولم يكونوا رهناً للتقلبات والنكسات التي تلم ببورصة شيكاغو التي تسببت في الايام الاخيرة في

شطب 50% من ايراداتهم على ايدي المضاربين . وهكذا فقد انتقل الناس من الراحة والاطمئنان الى القلق والهموم بفضل تلك الثقافة الاستهلاكية الجديدة.

تعثرت الزيادة المفاجئة في حجم الانتاج والتي كانت وليدة اختراعات الثورة الصناعية وما واكبها من تطوير أساليب وعمليات الانتاج الكمي الشامل ، لأن الاستهلاك لم يكن قادراً على مجاراة الانتاج . وهكذا وجدنا ان قواعد العرض والطلب التي تسود السوق أملت على اصحاب القرار إيجاد منافذ لطلب جديد لتصريف هذا الفائض من الانتاج . ولما كانت الزيادة في الانتاج زيادة ثورية ناجمة عن الثورة الصناعية ، فكان لابد ان تكون زيادة الطلب ثورية ايضاً ، مما اقتضى ضرورة تغيير الثقافة السائدة بأكملها والتي كانت سائدة آنئذ. واذا كانت الشكوك قد ساورت أحداً بأن إجراءً ثورياً قد أصبح مطلوباً لاستيعاب حجم الانتاج الهائل الجديد، فإن فترتي الكساد اللتين وقعتا خلال عقدي السبعينات والتسعينات من القرن التاسع عشر مثلت لهؤلاء تذكيراً قوياً . ولم تكن مثل حالات الكساد هذه ذات نتائج اقتصادية سيئة فحسب ، بل ونتج عنها اضطراب سياسي سيئ أيضاً . ولقد نشأ حزب ثالث نتيجة الاضطراب الاقتصادي والسياسي هو حزب الشعب الاميركي . ولقد نظر اعضاؤه بازدراء الى الرأسمالية والرأسماليين البارونات اللصوص والذين برزوا اثناء الثورة الصناعية . ولم ينظروا باحترام حتى الى ذلك الاقتصاد الذي كان يديره هؤلاء . طالب ذلك الحزب بتغيير النظام.

وهكذا فقد اضحت المشكلة لا تكمن في انتاج السلع بل في انتاج المستهلكين. وقد تمت الاشادة بالاستهلاك واعلائه ليرتقي الى مرتبة الديانة وليحل مكانها واصبحت روح هذا النظام الاستهلاكي متمثلة في اطلاق العنان للرغبات والنـزوات البشرية . وكانت عقيدة الاستهلاك الجديدة هذه مناهضة للدين ، حيث ان كافة الاديان والشرائع تحث على كبح جماح الرغبات والسيطرة عليها ، وتعلمنا الاعتدال في كل شيء بما في ذلك امتلاك السلع والاموال في هذه الدار الدنيا . ورفعت الاديان من شأن القيم الاخلاقية وسموها على الماديات . وقد وعدت الشرائع والديانات بأن جزاء ذلك هو السعادة في الدنيا وحياة افضل لا تعرف الفناء في الدار الاخرة . اما مبدأ الاستهلاكية فقد سار في الاتجاه المعاكس "إما الآن وألا فلا .." أدبر القرن التاسع عشر مفسحاً المجال للقرن العشرين حتى كان 2% فقط من الشعب يمتلكون 60% من اجمالي الثروة الاميركية ، فيما ترك للنصف الاسفل من الاميركيين ما نسبته 5% من اجمالي هذه الثروة .

وفي عالم الرأسمالية المادي البحت كان من اللازم ترفيع ثقافة الاستهلاك الجديدة هذه الى مرتبة العلم . وقام اصحاب الثروات والقائمون على الانتاج بإيجاد تحالفات مع الجامعات والكليات الرائدة التي بدأت بتعليم التجارة وادارة الاعمال في كليات جديدة استحدثت لهذا الغرض . ولم يقم أولئك الاثرياء بالتبرع السخي لهذه المؤسسات فحسب ، ولكنهم تربعوا فعلاً على مقاعد مجالس الامناء فيها وشاركوا في اعداد السير الذاتية لاعضائها . واصبحت الحكومة ايضاً مشاركة في ايجاد هذه الثقافـة. تبرع رئيس أحد أكبر البنوك في نيويورك لانشاء مباني كلية الادارة في جامعة هافارد . وتبرع آل روكيفلر لجامعة شيكاغو وتبرع العديد من البارونات اللصوص )كما كانوا يُعرفون( بإنشاء كليات وجامعات أخرى .

شكل أصحاب مافيا المال تآلفاً مع النخبة في أرقى الجامعات والكليات الاميركية . وقد توصل هؤلاء الى الاستنتاج بأن الانتاج هو احد وجهي معادلة العرض والطلب ، بل هو الوجه الاسهل ، وقرروا أنه يمكن

السيطرة على الطلب من خلال تحفيز الرغبات البشرية التي لا تعرف الحدود ، مما سيقود الى زيادة لا تنتهي في النمو والانتاج . وجاء في كتاب "أرض الرغبة" "أن أية مؤسسة تعليمية في العالم لم تُدانِ او تُجارِ جامعة هارفارد من حيث

الطريقة التي خدمت بها المتطلبات العملية للنشاطات التجارية والاقتصادية وساعدت على بناء الاقتصاد القائم على الاستهلاك الكمي الشامل" .

ان قلة قليلة من الافراد كان لهم من التأثير العميق في بناء هذا النمط من الاقتصاد ما أحدثه احد خريجي جامعة هارفارد عام 1914 وهو بول مازور Paul Mazur . كان مازور شديد الاعتماد على جامعة هارفارد لتساعده على تحقيق أربه .ونشر مازور عام 1928 كتابه بعنوان ("الازدهار الاميركي" “American Prosperity”) ويمكن التعبير عن ثقافة الاستهلاك الرأسمالي بإيراد بعض المقتطفات من هذا الكتاب :

"يمكن الان تطوير الرغبات البشرية بحيث تطغى هذه الرغبات على احتياجات الانسان الحقيقية وبالتالي تطمسها"

“…يبدو ان الرغبات البشرية لا تقف عند حدود"

… "وفر الاموال للجميع بما يكفي لاشباع كافة الحاجات والرغبات والنـزوات ، ووفر لجميع ابناء الشعب الرغبة لاشباع هذه الحاجات والرغبات والنـزوات، وعندئذ فإن الطاقة الانتاجية للبلاد سوف تئن تحت وطأة الطلب الهائل . ربما تكون هناك حدود لاستهلاك بعض السلع المعينة ولكن لا توجد اية حدود نظرية لامكانيات الاستهلاك العام" (الازدهار الاميركي: اسبابه ونتائجه) .

وقد تمت اقامة مؤسسات مساعدة لترويج هذه الثقافة الجديدة حيث استحدثت مؤسسات الاقراض الشخصي بالتقسيط لتمويل احتياجات الافراد الشخصية مما زاد في عدد المدينين من الافراد وتضاعفت نسبة هذا النشاط خلال العقد التالي للقرن العشرين.

وقد تم الاعلاء من شأن الاستهلاكية لتصبح عقيدة الرأسمالية ودينها حيث وعدت الناس بالعيش في جنات الخلد ولكن على هذه الارض وفي حياتهم الدنيا . وقد بارك ثقافة الاستهلاك هذه جون كينـز John Keynes ، خريج جامعة كمبردج. وادّعى ان اخلاقيات العقائد والديانات يجب استبعادها من قيم المجتمع لانها تدعو الى الادخار للمستقبل والانضباط الذاتي في الحياة الدنيا للحصول على الجزاء في الحياة الأخرى. وقد عمل على ترويج استغلال الفرص والملذات في الوقت الحاضر بدلاً من الانتظار للمستقبل ، وان على الناس الاّ يكبحوا جماح شهواتهم ويجب ان ينسوا مبادئ التوفير والاقتصاد والتضحية . وفي عرف كينـز فإن مثل هذه الفلسفة ستعود على الجميع بفائض من السعادة والمسرات .لقد أعطيت عقيدة الاستهلاكية قدسية وأصبح من غير المسموح لأحد ان يهاجم هذه الثقافة او يتطاول عليها

لكن هل نتج عن هذه الثقافة السعادة ؟

مجلة تايم الاميركية TIME في عددها الصادر بتاريخ 15 يونيو حزيران 1996 وصفت حالة الاميركيين بقولها "يفتقد الاميركيون بشدة الشعور بالقناعة والرضا. فهم متخوفون ان يتخلفوا عن الركب في عهد جديد . وهم قلقون بل مذعورون حيال الوظائف الآخذة في الانقراض والعناية الصحية التي لا يمكن توفرها او الحصول عليها وتصاعد ارقام المشردين والذين لا مأوى لهم ، والبيئات الملوثة والجرائم التي تقع دون احساس او معنى والتي يرتكبها اطفال صغار مستعملين بنادق اوتوماتيكية . لقد سئم الاميركيون الكلام …"

وكتبت مجلة التايم في 15 ديسمبر سنة 2008 ص (11)

" منذ أن قام احد الطلاب سنة 2007 بقتل عشوائي لــ32 من زملائه في جامعة فيرجينا للتكنولوجيا ، وخبراء علم النفس يبحثون عن الجواب . دراسة جديدة قام بها باحثون من جامعة كولمبيا والمعهد الوطني للصحة ومعهد الدراسات النفسية لولاية نيويورك بينت نتائج قاتمة : حوالي نصف الامريكيين ممن هم في سن طلبة الجامعات يعانون من أضطرابات نفسية بينما أقل من الربع يسعون الى طلب العلاج ."

ومع ذلك فإن الرأسمالية الانغلوسكسونية/ النسخة الامريكية عاقدة العزم على تصدير هذا الشكل من الرأسمالية والتعاسة الى دول العالم المختلفة شاءت تلك الدول او لم تشأ عبر عولمتها وأدوات استعمارها الجديدة . وخُيِّرَ العالم بان يكون مع هذا النموذج أو ضده وعندئذٍ يصبح الرافض مارقاً يحتاج الى بِضع صواريخ كروز لاعادته الى صوابه!

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل