كيف ضاعت فلسطين قال الجاسوس لورنس : إن التاريخ سلسلة من الاكاذيب تمَّ تصديقها . (2-2

د. عبد الحي زلوم

بالرغم من قيادات الجيش العربي الانجليزية كان اداء الضباط العرب في الجيش اداءً بطولياً كما بينا في المقال الأول وجاءت الاوامر بقلب امور قيادات الجيش رأساً على عقب بعد اسبوعين فقط من بداية الحرب ، حيث تم سحب كافة القادة الانجليزالحربيين من فلسطين الى شرق الاردن باعتبارهم معارين من الجيش البريطاني واستبدالهم بضباط اداريين .

في 6/6/1948 صدر عن رئاسة الاركان ( أي انجليز الجيش العربي ) أمر وقع عليه جميع الضباط في القدس وجرى تبليغه لجميع الرتب يقضي بالتوقف عن اطلاق النار على الاحياء اليهودية في القدس . كانت هذه (هدنة) ما قبل الهدنة الاولى التي اعلنت في 10/6/1948 وذلك للسماح لليهود خلالها بإعادة ترتيب انفسهم وتقوية تسليحهم .

بعد انتهاء الهدنة الاولى تحركت الكتيبة الاولى الى منطقة بيرزيت استعداداً لتوجهها الى الرملة للدفاع عنها حيث أن هناك معلومات أفادت بحشد اليهود قواتهم لمهاجمتها . ولمنع ذهاب تلك الكتيبة الى ارض المعركة جاءها أمر مستعجل وهي في الطريق بالتوجه الى شمال غور الاردن باعتبار احتمال هجوم اليهود على العدسية والتوغل منها الى منطقة اربد، واتضح لاحقاً ان الامر كان كاذباً وكان الهدف منه منع الجيش العربي من التوجه نحو اللد والرملة . في صباح نفس اليوم 11/7/1948 وبينما كانت الكتيبة الاولى في طريقها الى شمال الغور (العدسية) هاجم اليهود اللد والرملة . تقدمت القوات اليهودية في الصباح الباكر واحتلت مطار اللد أكبر مطار في فلسطين . كان هناك فئة قليلة العدد في الرملة كان المفروض أن تدعمها الكتيبة الاولى وكانت تتكون من سرية واحدة تحمي المدينتين . انسحبت هذه السرية عند بدء الهجوم اليهودي عليها. كان التقدير أن القوة اليهودية المهاجمة تتكون من لواءين . آخر برقية وصلت من قائد السرية الاردني الى قيادة الفرقه كتب فيها :" انتهى العتاد ولم يبقى الا خمس طلقات لكل بندقية هل ننسحب أم نستسلم ؟" صدر الامر بالانسحاب . طوق اليهود المدينة من الجهات الثلاثة عدا الشرقية مما سمح للسرية الى الانسحاب بعد أن احرقت اثاثها و سياراتها وصناديق ملابس جنودها ووصلوا الى رام الله بأسلحتهم الفردية. لكن ما يتوجب الاشارة اليه أن قائد الجيش الاردني كلوب باشا قدم من عمان ليشاهد عملية الانسحاب وكان ذلك في تمام السادسة صباحاً صاعداً على مرتفع غربي قرية بدّو يشرف على الساحل يراقب الموقف بمنظار ميداني – ذهب كلوب باشا بعد ذلك الى مركز الفرقة حيث أوعز الى القيادة بارسال سيارات الجيش طالباً من الشرطة العكسرية توجيه تلك السيارات الى نقاط تجمع الاهالي الذين طردوا من المدينتين لنقلهم . بعد اتمام اليهود احتلال اللد والرملة وبعدما عادت الكتيبة الاولى من الطريق الى العدسية قامت سريتان من هذه الكتيبة تعززها المدرعات للتوجه الى قرى دير طريف وبيت نبالا وأخرجتا اليهود منهما وتقدمت باقي الكتيبة الى قرية الجيب وهاجمت مواقع دفاعية لليهود وأحاطت بحوالي فئتين من القوات اليهودية وأبادتهما وتقدمت فئة مدرعات مع الملازم محمد أبو دخينة ودخلت مدينة اللد من الشمال وطردت اليهود من شوارعها ، واعتقد اليهود كما اعتقد اهالي اللد أن هذه

المدرعات هي مقدمة قوة كبيرة وانسحبوا من معظم انحاء المدينة . بناء على الاوامر من القيادة الانجليزية انسحبت تلك القوة من المدينتين ( اللد والرملة ) بإدعاء أن المهمة كانت استكشافية فقط. عندها رجعت القوات اليهودية وعندما شاهدها ما تبقى من سكان العرب لجؤوا الى مسجد المدينة لكن اليهود ابادوا كل من دخل المسجد الى ان سالت دماؤهم في الشارع المقابل .

انسحاب الجيش العراقي من فلسطين.

كان الجيش العراقي متمركزاً في شمال الضفة الغربية وكان أكثر عدداً وعدّة من الجيش الاردني . لم ينقص افراده الوطنية ولا الحمية ولكن كانت تنقصهم الاوامر بحيث كانوا دائماً يرددون . " ماكو اوامر " . في 3/2/1949 نشبت معركة محلية بين كتيبة عراقية في منطقة كفر قاسم واليهود في رأس العين . كان قائد الكتيبة المقدم عبد الكريم قاسم الذي قاد ثورة 1958 في العراق وأصبح أول رئيس للجمهورية العراقية . احتل قاسم من اليهود موقع رأس العين ومزرعة مجاورة كانوا يتمركزون فيها وامتنع عن الخروج من هناك رغم قيام الهدنة ووساطة مراقبي الامم المتحدة ، وحينما جاء امر الانسحاب من قائد لوائه نجيب الربيعي أجاب على برقيته قائلاً :" انا لا انسحب الا الى بغداد ." وفعلاً لم ينسحب الى أن تم سحب الجيش العراقي بكامله الى بغداد . في 9/3/1949 تقرر سحب الجيش العراقي من فلسطين وعودته الى العراق بناء على اتفاقيات رودس. في ذلك اليوم تم اجتماع بين ضباط من الجيش العربي الاردني والعراقي لتتسلم الكتيبة الخامسة من الجيش العربي مواقع القوات العراقية بين باقة الغربية شمالاً وقرية كفر قاسم جنوباً والتي كان يسيطر عليها قرابة فرقة عراقية كاملة. في اجتماع بين الضابط الاردني صادق الشرع والفريق نور الدين محمود باشا القائد العراقي سأل الضابط الاردني كيف ولماذا يا سيدي تعيدوا جيشاً هو اقوى الجيوش العربية في فلسطين وأكبرها حجماً وفي هذا الظرف الى العراق وهو مؤلف من فرقتين ليحل محله القوات الاردنية ومجموعها خمس كتائب وهي تستلم حالياً منطقة القدس والخليل والمواقع الامامية ولا تكاد تتمكن لافراز كتيبتين لاستلام مواقعكم ؟ قال الفريق نور الدين :" يعني تريدني أن أقوم بعصيان ، أنا عسكري وأخذت اومر بالعودة ..."

في يوم 30/3/1949 وقع الوفدين الاردني واليهودي على اتفاقية رودس . وقد وقع الوفد الاردني باسم الاردن والعراق على اساس أن يتم تسليم الجيش الاردني مسؤولية ومواقع الجيش العراقي الذي باشر بالانسحاب يوم 7/4/1949

اثناء عملية الكشف من الضابط الاردني (المرحوم صالح الشرع) على المنطقة التي كان قائد كتيبتها المقدم عبد الكريم قاسم ، سأل عبد الكريم قاسم عن معلومات الضابط الاردني عن اتفاقية رودس وهل ستكون قرية كفر قاسم داخلة في الحيز اليهودي بموجب تلك الاتفاقية ؟ فلما أُخبِر بالايجاب نادى على احد قادة السرايا وطلب فئة الاشغال وكانت في كفر قاسم مقبرة صغيرة تضم اثنين وعشرين شهيداً سقطوا اثناء معركة رأس العين وفي حوادث متفرقة أخرى فأمر بفتح قبورهم واخراج جثثهم ونقلها الى مقبرة الشهداء العراقيين على مفرق جنين – قباطياً ! وقال : انا اسلمكم المواقع ولكني لا اترك جنودي الاموات لتدنس مقابرهم اقدام اليهود. كان امام قيادة الكتيبة تمثال يسمونه تمثال النصر أمر بهدمه وتم ذلك أيضاً . وهنا أقول كم كذب مزورو التاريخ عن هذا الرجل الرجل.

في 4/5/1949 عقدت لجنة الهدنة الاردنية اليهودية أول اجتماع لها حضره من الجانب الاردني وكيل وزارة الاقتصاد ، ومتطرف لواء نابلس ، وقائد الكتيبة الخامسة ومن الجانب اليهودي المقدم موشي ديان والرائد راماتي وضابطان آخران : كان الجنرال بيرنز من الامم المتحدة يترأس الاجتماع . وتم بحث اتفاقية رودس بكامل بنودها ، والخرائط والمخططات التي أُلحقت بالاتفاقية والتي وقعها الوفدان الاردني واليهودي هناك وصدق عليها ممثل الامم المتحدة . المفاجأة كانت بالمخططات التي أُلحقت بالاتفاقية بعد العودة من

رودس والتي لم يوقع عليها الطرفان ولا ممثل الامم المتحدة والتي كانت تزيد كثيراً عن الخرائط المعتمدة قفام الوفد الاردني برفضها كاملة والاعتراف بما تم التوقيع عليه في رودس فقط . كانت الملحقات الجديدة تضم قرى واراضي شاسعة لم تكن ضمن اتفاقية رودس .

بعد علمهم بالامر قام وفد من رؤساء بلديات المنطقة وزاروا عَمّان ليلاً ليقابلوا الملك عبد الله في اليوم الثاني . كان انطباعهم ان الملك عبد الله لم يكن بالصورة حيث أتصل ووبخ القائد البريطاني كلوب باشا . في 6/5/1949 صدر أمر من قائد اللواء الانجليزي الموجود في رام الله بأن تنسحب قطاعات الجيش العربي من الخط الذي استلمه من القوات العراقية الى الخط الخلفي الذي يتلائم مع المخططات التي قدمها اليهود والتي تم رفضها من الجانب الاردني في اجتماع لجنة الهدنة . وفي 7/5/1949 تم سحب انقطاعات المذكورة الى المواقع الجديدة وتم التخلي عن 17 مدينة وقرية واراضيها البالغة 282 الف دونم هكذا في يوم واحد ودون اطلاق رصاصة واحدة .

وهكذا ضاعت 78% من فلسطين .

يتضح من سرد تلك الاحداث إنه لم ينقص افراد وضباط الجيش العربي الاردني ولا افراد وضباط الجيش العراقي أو افراد وضباط الجيوش الاخرى لا الشجاعة ولا الكفاءة الا انها كانت تحت قيادات أجنبية غير كفؤة قامت بتنفيذ اجندات تهدف لترسيخ دولة يهودية. كان التلاحم بين افراد الشعب الواحد في ضفتي النهر منقطع النظير . كانت الناس مستعدة لبذل النفس والنفيس للدفاع عن ارض الاسراء والمعراج .

كيف تراجعت قضية فلسطين من قضية اسلامية يهودية الى " نزاع عربي صهيوني" ثم صراع عربي عربي ثم صراع اردني فلسطيني ، ثم صراع لبناني فلسطيني ، ثم صراع فلسطيني فلسطيني ؟ كيف اصبح الفلسطيني "بلجيكي " في شرق النهر واصبح سويدي الان بعد اوسلو في غربه ؟ كيف استطاع اعداء الامة بمساعدة طابورهم الخامس والسادس والسابع أن يديروا هذا الامر هكذا ... ألأنا اطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق ؟ منذ متى اصبح مسقط الراس في البلد الواحد معياراً للانتماء والولاء ؟ ثم الانتماء والولاء لمن ؟ أسألة متى اجبنا عليها بصدق نكون قد قطعنا نصف مسافة الطريق فتحديد المشكلة هي نصف الحل !

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل