كيف ضاعت فلسطين؟ قال الجاسوس لورنس : إن التاريخ سلسلة من الاكاذيب تمّ تصديقها .
د. عبد الحي زلوم
قرأت العشرات من المؤلفات عن القضية الفلسطينية لكَُتاب من شتى المشارب منهم العربي ومنهم الغربي ، ومنهم كتاب يهود وصهاينة مثل بني موريس ، وتوم سيغيف ومنهم يهود محايدون موضوعيون مثل آفي شليم . كما كتبتُ عن الموضوع كتاباً من 408 صفحات . لم تكن قراءاتي تلك ترفاً ولكنها كانت لمعرفة حقائق عشتها وأثرَت على مجريات حياتي . ولقد حصلتُ مؤخراً على كتاب " مذكرات جندي" لصاحبه المرحوم العميد صالح الشرع ( رقم الايداع لدى مديرية المكتبات والوثائق الاردنية 103/7/1985 ) . وصاحبه عايش تلك الاحداث لحظة بلحظة وسجلها بموضوعية ومنهجية تاريخية بحيث يمكن اعتبار هذا الكتاب مرجعاً متميزاً عن القضية الفلسطينية يجب ان يكون في متناول كل فلسطيني وعربي ليعلم كيف ضاعت فلسطين . ولولا ان مقولة لورنس العرب "إن التاريخ سلسلة من الاكاذيب تم تصديقها " لوجب أن يُدَرس هذا الكتاب في مناهج التاريخ في ارجاء الوطن العربي .عايشت بعض هذه الاحداث سنة 1948 حينما كنت في الثانية عشر من عمري . خدم الكاتب في الجيش العربي وتَرَفَعَ من رتبة جندي الى رتبة عميد في مراكز هامة اثناء الانتداب البريطاني حين كانت قوات الجيش العربي في فلسطين تتبع مباشرةً الى الجيش التاسع البريطاني ويقوم افراده باعمال الحراسة لمستودعات الجيش البريطاني وكذلك للمنشآت العامة كميناء حيفا بإعتباره مركز لنقل الاسلحة للاتحاد السوفيتي عن طريق ايران اثناء الحرب العالمية الثانية .
ذات يوم وكنت في العاشرة من عمري مررت امام مبنى دار الاذاعة الفلسطينية في القدس في حي المصرارة . كم كان اعتزازي أن ارى جندياً عربياً بشماغه الاحمر يقف على بوابة المبنى ويقوم بحراسته . مررت مراراً لارى ذلك المنظر الذي اعجبني . لكن حسرتي كانت كبيرة عندما علمت أن هذا الجيش العربي في فسلطين حرس المنشآت العامة كميناء حيفا ومستودعات الذخيرة للجيش البريطاني والتي سلمها الانجليز بكاملها الى القوات اليهودية حتى قبل انسحابها من فلسطين في 14/5/1948 .
كان على الجيش العربي ان ينسحب في 14/5/1948 مع انسحاب القوات البريطانية بإعتباره جزءاً منها ، وكان عليه ان يرجع بعد ذلك بيوم الى فلسطين . كان قائد الجيش كلوب باشا بريطانيا ، وكذلك كان جميع قادته من الانجليز المعارين من الجيش البريطاني ، كانت ميزانيته واسلحته من بريطانيا وهي نفس البريطانيا التي اصدرت وعد بلفور والتي جاءت تحت مظلة الانتداب للعمل على انشاء وطن قومي لليهود . أي حسب القول الشعبي " حاميها حراميها" . مع أني درست صفوف الابتدائي اثناء ذلك الانتداب لم يعرف أحد منا ما معناه سوى ما قيل لنا ان الانجليز جاءوا ليؤهلونا لحكم انفسنا . كان الانتداب يخلق مؤسسات دولة يهودية وجيش يهودي في الوقت الذي يحكم بالاعدام على من يملك رصاصة واحدة من عرب فلسطين .
كان الجيش العربي يتكون من فرقه تتكون من لواءين . وكل لواء يتكون من كتيبين . كان اللواء الاول بقيادة العقيد البريطاني جولدي ويضم اللواء الكتيبة الاولى والثالثة – اما اللواء الاخر فكان بقيادة العقيد البريطاني أشتن ويضم الكتيبتين الثانية والرابعة . اما قائد الفرقة فكان اللواء البريطاني لاش . في 15/5/1948 تحركت الفرقة كاملة الى فلسطين عن طريق جسر اللنبي ( الملك الحسين لاحقاً) . قررت
الجامعة العربية التي أوجدها الانجليز قبل ذلك بقليل أن تصبح الجيوش العربية التي ستحرر فلسطين تحت قيادة جيش قيادته انجليزيه بالكامل .
يقول الكاتب المرحوم صالح الشرع انه “ عندما تحركت وحدات الجيش بإتجاه فلسطين يوم 14/5/1948 كانت القوافل تسير بشكل مهرجان للغناء والرقص والاهازيج متبادلة بين افراد الجيش وجمع الاهلين الذين اصطفوا على جوانب الطريق يشجعون ويطلقون النار في الفضاء ولا انسى مجموعة من نساء البدو اعتقد انهم من عشيرة العدوان غربي صويلح ترقص الرقصات البدوية وبينهم امرأة عجوز تلوح لنا بغليونها وتهزج اهازيجها ..... وحتى رعاة الغنم على طول طريق وادي شعيب كانوا يهزجون تلك الاهازيج ... وبطبيعة الحال كان الجنود يرددون على الجميع بالمثل . وانا اعرف انني عاجز عن وصف ذلك الحماس والاستعداد للتضحية من جميع الرتب ." في وصف مماثل للمؤرخ الاسرائيلي توم سغيف كتب ان الاهالي المصطفين على جوانب الشوارع كانوا يقولون لابناءهم في قافلة الجيش لا ترجعوا الا منتصرين او شهداء . ويحسن هنا ان نتوقف قليلاً عند بعض الاحداث لنرى كيف كان افراد الجيش العربي والشعب العربي في الاردن متفانياً في الدفاع عن فلسطين قبل أن تفعل أعمال الطابور الخامس من ايجاد الفرقه بين اهل شرق نهر الاردن وغربه . فبينما كانت وحدات الجيش العربي عاملة في فلسطين أيام الانتداب البريطاني هرب ستة من افراد الجيش العربي بأسلحتهم في بداية سنة 1948 والتحقوا بالمناضلين الفلسطينيين في منطقة يافا في قيادة المجاهد حسن سلامة . وعندما زارهم مؤلف الكتاب المرحوم صالح الشرع وسألهم عن سبب هروبهم ، وكانوا جميعاً بلباسهم العسكري عدا لباس الرأس ، فاجابه "دغيليب" وهو من عشائر الحويطات بجنوب شرق الاردن بانهم يريدون محاربة اليهود . قال لهم المرحوم الشرع بأننا سنحارب اليهود بعد خروج الانجليز . قالوا انهم استعجلوا حبهم للقتال لكن ما دام الامر كذلك فلا مانع من رجوعهم وفعلاً رجعوا الى الجيش . أما دغيليب هذا فلقد استشهد في القدس بعد دخولها من الجيش العربي بعد خروج الانجليز . رحم الله دغيليب . وهناك قصة اخرى معروفة عن شيخ مشايخ عشائر الحويطات حمد بن جازي . ذهب أحد ابنائه للجهاد في فلسطين مع المناضلين الفلسطينيين ايام الانتداب البريطاني واستشهد . لما جاؤا للشيخ بن جازي بجثمان ابنه قال : لن يتم دفنه حتى يذهب اخيه الى فلسطين ليساعد المجاهدين هناك وليثأر لاخيه. وهكذا كان . واستشهد الابن الثاني للشيخ بن جازي في فلسطين . هكذا كانت الاخُوة بين الشعب الواحد لشطري الاردن فكيف تغير الحال ؟
وقعت اولى المعارك الكبيرة بين الجيش العربي والقوات اليهودية في 19/5/1948 حين دخل اليهود الشيخ جراح في القدس واحتلوا أيضاً دار الحكومة وبيت المندوب السامي السابق على جبل المُكبر . تدخلت الكتيبة الثانية من شمالي القدس وطردت القوة اليهودية استشهد خلالها جندي وجرح 13. حرك اليهود لواءً من قواتهم في تل ابيب لمساندة قواتهم بالقدس . فتصدت لهم الكتيبة الرابعة بقيادة المقدم حابس المجالي من موقع اللطرون على طريق تل ابيب / يافا القدس عند مدخل باب الواد وفاجئتهم المدفعية بقيادة الرئيس محمود الروسان واوقعت فيهم خسائر فادحة من الافراد والمعدات وتركوا ورائهم 800 قطعة سلاح ممن قتل او جرح افرادها ، وتم أسر بعضهم . كان ارئيل شارون أحد هؤلاء الاسرى .
في 22/5/1948 لم يمضي اسبوع على دخول الجيش العربي الى فلسطين بما فيها القدس دخلت الكتيبة الثالثة الى منطقة الشيخ جراح بعد منتصف الليل وتوغلت سرية منها بقيادة الملازم غازي الحربي في الحي اليهودي ووصلت الى عمارة بنك باركليز واحتلت اخطر موقع يُطل على الجزء العربي من القدس ويستهدفها بينرانه وهي عمارة نوتردام . أصدر القائد البريطاني غولدي امراً للملازم الحربي بالعودة الى قواعده فرفض الامر وتمركز في عمارة نوتردام الاستراتيجية . هدده القائد البريطاني بإنه اذا لم يرجع فسيستعمل القوة ضده وضد سريته وسيطلق نار المدفعية عليهم ، فأذعن وانسحب خلال منطقة مكشوفة تحت نيران اليهود فخسرت سريته تسعة عشر شهيداً عدا الجرحى . وقد ثار نائب السرية فياض دحيلان
من عشيرة الحويطات من هذا الموقف وغادر القدس ومعه ثمانية من جنوده والتحقوا مع منظمات المجاهدين .
في 23/5/1948 حضر الامير نايف وامر بوضع مدفع 8 عقدة ليضرب منطقة هداسا والجامعة العبرية في القدس حيت تتمركز قوات يهودية . تدخل قائد الفرقه الانجليزي وارسل ضابطاً عربياً ليقنعه بعدم تنفيذ ذلك والا فإنه سيعيد المدفعين من هذا العيار الى عمّان ، استاء الامير من هذا التصرف ورجع الى عمان بعد ان تأكد أنه قائد الجبهة "مع وقف التنفيذ " . وكان غلوب باشا قد زار قيادة الفرقة واجتمع في خيمة العمليات دون حضور الامير نايف في ذلك الاجتماع .
في 26/5/1948 ضربت المدفعية الاردنية جميع الاحياء في الجانب اليهودي من القدس . في مساء ذلك اليوم جرى تبديل قائد المدفعية المقدم محمد المعايطة بداعي تبذيره في العتاد وارسل الى عمّان محجوزاً تمهيداً لمحاكمته، وعين مكانه الميجر البريطاني بولاك والذي اطلق في اليوم الثاني مئة وثمانية قنابل سقطت جميعها على منطقة ملعب كرة قدم في القسم اليهودي من القدس . !!
عندما اصبح لاحقاً المرحوم صالح الشرع ملحقاً عسكرياً في السفارة الاردنية في لندن لاحظ تخلف غولدي عن حضور حفلات السفارة فتبين له ان زوجة غولدي يهودية كانت تعمل مع زوجها في قيادة غرفة عملياته وتتطلع على كل كبيرة وصغيرة . علماً بأن اسم غولدي نفسه هو اسم يهودي . كذلك عَلِمَ أن اللواء لاش قائد الفرقه الاردنية قد سُرِحَ من الجيش البريطاني كونه كان رقيباً في الجيش البريطاني في فلسطين . أما من سرحه فكان قائد الاركان البريطاني عندما علم انه لم يدخل في حياته ولا دورة من دورات الضباط التأهيلية .
في 28/5/1948 احتل الجيش العربي الحي اليهودي بداخل القدس القديمة بقيادة وكيل القائد عبد الله التل . كانت انتصارات واداء الجيش العربي ذو الخمسة الاف جندي فقط يقابله 65 الف جندي يهودي حسب الاحصاءات الاسرائيلية نفسها مزلزلاً وغير متوقع . وبعد احتلال القدس القديمة والحي اليهودي بدأ العد العكسي التأمري الواضح على الجيش العربي نفسه وبالتالي على قضية فلسطين بأكملها .
في اليوم الثاني لاحتلال القدس اي في 29/5/1948 طلبت بريطانيا سحب ضباطها المعارين للاردن بدعوى احتجاج اليهود لدى الامم المتحدة على وجودهم . وصدر الامر بإعادتهم من فلسطين الى شرق الاردن . كان معظم قادة الوحدات والالوية والكتائب وقائد الجيش من الانجليز ، وهكذا اصبح هذا الجيش بلا قيادة ولا رأس وهو في حالة حرب واشتباكات . كان هناك ضباط انجليز يعملون عن طريق العقود لا الاعارة أكثرهم من الادارين . وكانوا يعملون في القيادة بعمان . تم ارسال هؤلاء الضباط الاداريين مكان الضباط الحربيين . استلم مدير الادارة واللوازم واصبح قائد لواء! وصار المدير المالي مديراً للعمليات ! واصبح ضباط المشاغل والصيانة ضباط اركان ! أما غولدي فتم الادعاء عن عدم وجود بديل له ليبقى في مكانه .
من هنا بدات المهازل الواحدة بعد الاخرى ، من مهزلة تسليم اللد والرملة دون قتال وتسليم المثلث الخصيب في اتفاقية رودس وتسليم 17 مدينة وقرية مع اراضيها البالغة (282) الف دونم ... هكذا بجرة قلم وبدون قتال كما سنبين في الحلقة القادمة إن شاء الله بعد يومين.
(يتبع )
مستشار ومؤلف وباحث