صندوق النقد الدولي احد ادوات الاستعمار الجديد : مبدؤه داوني بالتي كانت هي الداء

د. عبد الحي زلوم

يعقد روبرت كوبر ، المستشار السابق لدى رئيس الوزارء البريطاني ، مقارنة بين اشتراطات صندوق النقد الدولي اليوم ، وبين إمبريالية الأنجلو- فرنسيين في القرن التاسع عشر ، عندما قرروا في سنة 1875 تولي السيطرة المباشرة على مالية مصر لضمان سداد الديون ، فكتب قائلاً : " كم يختلف هذا عما فعله اللورد كرومر وآخرون في مصر؟... يبدو شبيهاً وإلى حدً لافتٍ بواحدٍ من برامج صندوق النقد الدولي المتشدد."

بعد احداث الاضطرابات التي حدثت بالاردن بعد تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي سنة 1989 كتب Curtis R. Ryan : لمعظم الدول المدينة في الشرق الاوسط وبل في العالم الثالث تتكرر قصة اعادة الهيكلة وتحرير الاقتصاد وعادةً ما تكون بناءً على شروط من ادوات العولمة السياسية والاقتصادية . اما من الناحية السياسية فإن أكثر ما يقلق الدول فهو تزامن الاضطرابات الشعبية التي تلي بداية تنفيذ شروط الصندوق . لذلك فالصندوق يبقى من اكثر المؤسسات جدلية في العالم… وهو للبعض يمثل المرابين ( الزعران) الذين يمارسون قسوة في مطالبة ديونهم ( sluggish loan sharks) .

ومنذ حوالي ربع قرن من إعادة هيكلة الاقتصاد الاردني تم إصلاح المديونية بمزيد من الدين حتى وصلت إلى أرقام فلكية تنوء تحتها ميزانية خدمة الدين فما بالك بأصول الديون نفسها. زادت معدلات الفقر فأصبح ثلث الاردنيين فقراء أو فقراء عابرون حسب تقرير البنك الدولي الشقيق التوئم للصندوق. في عمليات اعادة هيكلة الاقتصاد وتحريره في الاردن كما في غيرها والتي تهدف إلى تحويل الدول إلى أسواق للمنتجات الغربية أو تلك المملوكة من الشركات العبر قطرية في الصين وغيرها في عمليات الخصخصة يطلب الصندوق من الدول بيع المؤسسات التي تم الاستدانة لبنائها للشركات الغربية غالباً، تماما كما أجبر الانجليز الخديوي إسماعيل بيع قناة السويس لهم بسعر بخس أقل من 4 مليون جنيه قام رئيس الوزراء دسرائيلي بستدانتة من عائله الرثسشالدس اليهودية. تغيرت الأساليب والاستعمار واحد. كما ساعد الصندوق إلى تحويل إقتصاد الدول إلى أسواق للعمالة الرخيصة في خدمة الشركات العابرة للقارات . لذلك نكاد لا نجد أي مشروع إنتاجي في برامج الصندوق . الهدف هو تحويل المجتمعات في العالم الثالث الى مجتمعات استهلاكية

ما تم تسميته بتحرير الاقتصاد من بيع للمؤسسات العامة في الاردن وكذلك تطبيق مبادئ التجارة الحرة فقد تم ادخال حوالي المليون سيارة الى الاردن خلال العشر سنوات الماضية . ولو افترضنا أن كلفة السيارة الواحدة بين صغيرة وكبيرة وجديدة ومستعملة هي 20 الف دولار فذلك يعني أن كلفة هذه السيارات بحدود 20 مليار دولار. لو كان استهلاك السيارة محاسبياً خلال 7 سنين فذلك يعني ان كلفة الاستهلاك هي حوالي 3 مليار دولار سنوياً . اضف الى ذلك كلفة الوقود الناتج عن هذه السيارات وكلفة قطع الغيار وكلفة البنى

التحتية اللازمة لاستيعاب هذه السيارات من انفاق وجسور فتقارب 2 مليار دولار أي يصبح مجموع كلفة الانفتاح الاقتصادي تحت مسمى تحرير الاقتصاد حوالي 5 مليار دولار سنوياً وهذا يزيد عن كلفة الوقود المستورد من الاردن حالياً .

كان شعار صندوق النقد الدولي وأخواته أثناء فترة ما أسموه بالتصحيح EXPORT OR DIE تم توجيه الاقتصاد إلى التصدير أو الموت بالنسبة للصناعات الاردنية . اليوم، وقف التصدير. الحدود الشمالية المؤدية إلى سورية ولبنان وتركيا وأوروبا اغلقت. الحدود مع العراق اغلقت مع أن سوقها يمثل ركناً أساسياً في الاقتصاد الاردني. في معادلة التصدير أو الموت فإذا توقف التصدير ما بقي على الاقتصاد إلا أن يموت.

قامت مؤسسات الهيمنة الاقتصادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالتوصية على تأسيس مؤسسات خارج جهاز الدولة ( الوزارات ) وكذلك ايفاد المستشارين إلى تلك المؤسسات وذلك لتقوم هذه المؤسسات بتنفيذ برامج مؤسسات الهيمنة تلك . يوجد في الاردن اليوم مؤسسات موازية في وصفها الوظيفي لما تقوم به الوزارات الحكومية . كلفة هذه المؤسسات بحدود 3 مليار دولار سنوياً أي ان كلفتها خلال 10 سنوات تساوي مجموع وكامل المديونية الاردنية . وبالرغم من انتقادات عديدة لضرورة الغاء هذا الازدواج المكلف والمنهك للاقتصاد الا أن عملية الالغاء هذه يتم الغاءها قبل البدء بها بالرغم من كلفتها على الاقتصاد الاردني ومخالفتها للاف باء الازداوجية للوصف الوظيفي الواحد . ويوجد في مصر مثلاً حوالي 34 الف امريكي وغربي يقبعون في كافة مؤسسات الدولية والجيش و يستهلكون معظم ما يتم تقديمه كمساعدات .

فلنرجع الى مقارنة مستشار رئيس الوزراء البريطاني السابق المقتبسة في بداية هذا المقال والتي تقارن بين الاستعمار الاقتصادي المباشر لمصر بدءً بالخديوي اسماعيل و ممارسات صندوق النقد الدولي فلنستذكر هنا ما فعله الاستعمار البريطاني الفرنسي في مصر .

ساعدت الدول الأوروبية الخديوي إسماعيل على الاستدانة بلا حدود . عندما إستلم الحكم من الخديوي سعيد كانت ديون مصر 10 مليون جنيه إسترليني. عمل مشاريع انمائية عديدة في الصناعة والبنية التحتية من نظام ري وشبكة سكك حديد في مصر . فتح قناة السويس . كما أسس صناعة السكر، وبنى جزءًً من القاهرة على طراز باريس وطور الاسكندرية. كما قام بفتوحات في أفريقيا حيث كان يهدف لإحتلال البلدان حول منابع النيل. لكن مخططه لم ينجح في إحتلال الحبشة حيث أن الانجليز لم يرقهم ذلك. كان نتيجة الحروب والإصلاحات أن أصبحت مصر مدينه ب 100 مليون جنيه إسترليني أي عشرة أضعاف المديونية في بداية عهده.

كما يفعل صندوق النقد الدولي هذه الأيام ارسلت بريطانية لجنة تحقيق سنة 1875 لدراسة مديونية وإقتصاد مصر. ارسلت الحكومة البريطانية بعثة دراسة سنة 1875 لدراسة اوضاع مصر الاقتصادية والمالية فأوصت اللجنة في ابريل 1876 ان تقوم القوتين بريطانيا وفرنسا بالتدخل لاصلاح الاوضاع لتتمكن مصر من سداد ديونها . وفي اكتوبر للسنة نفسها اوصت لجنة اخرى بالسيطرة البريطانية الفرنسية على شؤون مصر المالية . وفي 1878 اوصى الماجر بارينغ ( والذي اصبح اللورد كرومر لاحقاً) وهو من عائلة بارينغ البنكية اوصى بان يتنحى الخديوي اسماعيل ليصبح ملكاً دستورياً واجباره على قبول نوبار رئيساً لوزرائه و أن يكون شارلز رفيرز ولسون وزيراً لماليته و دي بلينغمير وزيراً للأشغال العامة . واخيراً تم الطلب من الخديوي اسماعيل التنازل عن العرش الى ابنه توفيق . واستمر الامر كذلك

حتى اعلان مصر محمية بريطانية سنة 1915. تراوح الدول المدينة هذه الأيام والتي تقع تحت رحمة الصندوق إلى محميات لا أكثر وفي أحسن الأحوال إلى دول حكم ذاتي مسلوبة السيادة السياسية و الدفاعية بل يصل التدخل كما في اليونان إلى إعادة هيكلة القوانين التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتنسجم مع عولمة الاستعمار الجديد. تصبح هذه الدول دول ذات سيادة منقوصة لا فرق بينها وبين سلطة عباس .

كان مخططوا سياسة الولايات المتحدة السرّيون جميعاً متفقين أن دور الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية هو قيادة عالم واحد . لكن اعضاء مجلس العلاقات الخارجية كان هو الاكثر وضوحاً . كتب اشعيا بومان المسؤول عن لجنة المناطقية الى زميله آرمسترونغ بعد.اندلاع الحرب بأسبوع : "أن على المجلس وكذلك الحكومة الامريكية أن يفكروا بادارة العالم بطريقة مختلفة .... اما مقدار انتصارنا فسيكون بمقدار هيمنتنا ... وعلى الولايات المتحدة أن تتقبل المسؤولية عن العالم"

وهنا جاءت المذكرة E-B49 للرئيس ووزير خارجيته تتضمن فكرة انشاء مؤسسة لمراقبة النقد والتي تطورت لتصبح صندوق النقد الدولي وأخرى تطوير بنك دولي لتطوير الاستثمار وهنا جاءت بدايات البنك الدولي . وبعد استكمال كافة بنود المؤسستين تمت الدعوة لعقد مؤتمر في بريتون وودز بولاية نيوهامشير سنة 1944 وتم اشهار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. تم ترتيب التصويت بالموافقة أو عدمها بأغلبية الاصوات . وحيث ان الولايات المتحدة كانت المساهم الاكبر فكان قرارها دائماً هو المرجح أو المخيّب لاي اقتراح مشروع يقدم للمؤسستين .

يتضح هنا أن هاتين المؤسستين هما من صنع الولايات المتحدة ولأجل خدمة الولايات المتحدة في هدفها لعولمة الاقتصاد العالمي تحت هيمنتها وبلا منازع . ولقد تمّ اقراض الدول النامية في كثير من الاحيان فوق طاقتها ، فأصبحت تحت احتلال اقتصادي لازمه احتلال للارادة السياسية والسيادية ، حيث تقوم هاتان المؤسستان بفرض الشروط التي تتدخل في أمور سيادة الدولة تحت طائلة إما شروطنا وإلا...وهكذا تم خلق مصائد للديون بحيث اصبحت ميزانيات العديد من الدول النامية تخصص جزءاً هاماً منها لسداد فوائد الديون لا اصولها وهو اسلوب من الاستعمار الجديد الذي تم تصميمه بعناية ولكن بتعاون من طبقة (النخب) المحلية والتي تم ربط مصالحها بمصالح الولايات المتحدة.

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل