زَوَرّوا لنا التاريخ لنبقى خارج التاريخ(6): اللورد مونتجمري جاء مع 25000 جندي لقمع ثورة 1936 الفلسطينية

د. عبد الحي زلوم

القسام وثورة 1936

ولد محمد عز الدين القسام في قرية جبلة القريبة من اللاذقية على الساحل السوري، وتخرج من جامعة الأزهر قبل أن يتطوع في الجيش التركي خلال الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب شكل وقاد القسام قوة دفاع في منطقته لمحاربة الفرنسيين، قبل أن يقرر التوجه إلى حيفا حيث عين إماما لمسجد الاستقلال وليواصل هناك ما بدأه في مسقط رأسه : تنظيم وقيادة العمل العسكري ضد الاحتلال، ولكن البريطاني هذه المرّة. بدأ القسام جهاده في فلسطين بتنظيم المقاومة المحلية وحركة الشبيبة. تعلم أتباعه كيفية الحصول على السلاح والشروع في مهاجمة المستوطنات اليهودية. كانت نتيجة أول عملية لجماعة القسام مصرع ثلاثة من أعضاء كيبوتز ياغوور، تلا ذلك قتل اثنين من كيبوتز ناحال. هاجم الثوار خطوط سكك الحديد وخربوا مزارع اليهود. تعاظمت أعمال العنف سواء في منطقة القسام أو غيرها؛ ليعكس حجم الإحباط في الشارع الفلسطيني أمام تزايد وتيرة الهجرة اليهودية والسياسة البريطانية المنحازة تماماً لليهود. اقترح القسام على المفتي إصدار نداء مشترك للجهاد والثورة العامة، إلا أن المفتي لم يتجاوب مع دعوة القسام الذي قرر اللجوء إلى الجبال في نوفمبر 1935 ومعه عدد من أنصاره ممن اصطدم بعضهم بالبوليس البريطاني. لم تنته المقاومة باستشهاد القسام بعد فترة، إلا أن الانقسام والتشرذم غلب عليها حيث كانت هناك العديد من الجماعات التي تنشط منفردة بدون قيادة مركزية. بدأت جماعات المقاومة وببعض التنسيق بين المناطق استهداف القوات البريطانية، سواء على شكل كمائن أو الدخول معها في معارك وجهاَ لوجه. لاحظ المراقبون بأن معظم المقاتلين كانوا من المراهقين ممن نضجوا خلال الاحتلال البريطاني. تصاعدت الأمور بصورة دفعت بأحد المسئولين في الإدارة البريطانية للقول:” الوضع الفلسطيني اليوم أسوأ من أي وقت مضى” فقد أصبح من الصعب استخدام الطرقات بدون السير في قوافل. وحتى القوافل العسكرية البريطانية المدرعة لم تكن في منأى عن الهجمات، كما حصل مع القافلة البريطانية التي هوجمت أكثر من مرة على طريق حيفا وأجبرت قائدها على طلب النجدة. امتدت المقاومة إلى المدن. ففي ليلة الأحد الموافق 16 مايو 1936 لقي ثلاثة يهود مصرعهم في القدس. وأطلق شاب في التاسعة عشرة من عمره النار على دورية بريطانية ليصيب ضابطاً عرف بعدائه الشديد للعرب. وقبل أن يقضي الشاب الذي كان يعمل مدرساً للغة الإنجليزية متأثراً بجراح أصيب بها في احدى العمليات خاطب أخاه قائلاً: لا تحزن علي.. فقد أديت واجبي. وفي اليوم التالي كانت عائلة الشاب تتلقى التهاني باستشهاده.

يمكن القول بأن ثورة 1936 اندلعت بتاريخ 19 أبريل، علماً بأن الصهاينة كانوا ولا يزالون حريصين على عدم وصف أعمال المقاومة بالثورة، بل اعتادوا الإشارة لها بكلمة “الأحداث”، كما فعلوا بعدها بعقود باختراعهم تعبير “الانتفاضة” للإشارة إلى ثورة الحجارة التي أطلقها الفلسطينيون في عقد الثمانينات الماضي. ففي اليوم المذكور سقط تسعة قتلى بالإضافة إلى أربعة من الجرحى في صفوف اليهود. وخلال الفترة الفاصلة بين 1929 واندلاع الحرب العالمية الثانية، شهدت فلسطين مصرع حوالي 2000 نصفهم من العرب، إضافة إلى 150جندياً بريطانياً وذلك في أكثر من1000 حادثة مسجلة في تلك الفترة.

في عام 1936 أنشأ المفتي اللجنة العربية العليا التي عملت كحكومة فلسطينية. وفي استجابة منها للنداء الصادر عن حزب الاستقلال في نابلس، دعت اللجنة إلى إضراب عام في أبريل 1936 شمل كامل فلسطين واستمر ستة أشهر. لم يتوقف إضراب الفلسطينيين إلا بعد تدخل عدد من الملوك العرب. تحول عرب فلسطين الآن للمطالبة بالاستقلال ورحيل البريطانيين، الذين أظهروا انحيازا لليهود وربطوا أنفسهم بالمشروع الصهيوني. وكما يقول بن غوريون فإن الفلسطينيين العرب خرجوا من الإضراب كـ:” طائفة منظمة ومنضبطة، مظهرين إرادة وطنية ونضوجاً سياسياً وقدرة على تقييم الذات”. وفي الوقت الذي بدت فيه الحركة الفلسطينية بدائية مقارنة مع الحركة الصهيونية، إلا أنها وعلى حد اعتراف بن غوريون ” لم تكن تفتقر للتفاني والمثالية واحترام النفس″.

توصلت لجنة برئاسة لورد بيل، وعرفت بنفس الاسم، إلى قناعة مؤداها أن:” الفجوة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية بين العرب واليهود في فلسطين أصبحت أكبر من أن يتم تجسيرها”، وبالتالي فقد أوصت اللجنة في تقريرها المرفوع إلى وزير المستعمرات بضرورة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود.

جاءت توصيات لجنة بيل الخاصة بالتقسيم لتحدد حصة كل طرف على الأرض بواقع 20% من مساحة فلسطين لليهود ( الجليل وجزء كبير من السهل الساحلي)، بينما أعطت 70% للعرب ( الضفة الغربية والنقب) والتي ستضم في النهاية لشرق الأردن لتوسيع رقعة الدولة التي أعطيت للأمير عبد الله، بينما يبقى 10% من مساحة فلسطين تحت الإدارة البريطانية، بما فيها مدن القدس وبيت لحم وممر يربطها بالبحر بالقرب من يافا. غير أن العرب كانوا يمثلون الأغلبية في الرقعة المقترح منحها لليهود والتي ستقام عليها دولتهم، وعليه فقد أوصت اللجنة بالقيام بعملية ترحيل جماعي “ترانفسير” للسكان العرب- وكان يقدر عددهم وقتها بحوالي 350 ألف نسمة- من منازلهم وأراضيهم في ما أطلقت عليه اللجنة تعبير: المقايضة، علماً بأن عدد اليهود الذين سيتم ترحيلهم من الدولة العربية المقترحة طبقاً لصفقة المقايضة هذه لم يكن يتجاوز 1500 شخص.

غير أن الثورة العربية شكلت التهديد الأكبر للمشروع الصهيوني، واستمرت في التصعيد الأمر الذي قرر البريطانيون معه اتخاذ إجراءات قاسية. فكان أن أرسل البريطانيون كبير خبراء مكافحة الإرهاب سير شارلز تيغارت إلى جانب 25 ألف جندي ورجل شرطة إلى فلسطين، وهي أكبر قوة تغادر بريطانيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. بالإضافة لذلك فقد شرع البريطانيون مع بداية خريف 1937 في تفعيل المحاكم العسكرية لقمع الثورة العربية. وفي الوقت نفسه تم استبدال آرثر واوتشوب بهارولد ماك مايكل القادم من السودان.

العقوبات الجماعية

يعود الشرف في المبادرة بتطبيق “نظام العدل” الفريد الذي جعل من الفلسطينيين مسئولين بصورة جماعية عن أعمال الثوار، فيما عرف بالعقاب الجماعي، للقاضي غاد برومكين. وطبقاً للنظام المذكور الذي وجد طريقه للتطبيق بعد ثورة النبي موسى واضطرابات يافا، فقد أصبحت قرى كاملة، وأحياء واسعة من المدن مسئولة عن أنشطة الثوار، وتم تطبيق الافتراض القائل بأن كل عربي مذنب إلى أن يبرهن على عكس ذلك. مثل هذا النظام العدلي لا يزال يطبق من قبل الإسرائيليين حتى يومنا هذا.

وفي بعض الحالات كان الجيش يعمد إلى تفريغ القرية من سكانها والبقاء فيها لأشهر طويلة. كان تدمير البيوت عملاً روتينياً ضمن إجراءات العقاب الجماعي في تصرف كان يلقى الاستحسان من الحكومة البريطانية. وفي إحدى المرات تلقى “مفوض السامرة ” رسالة شكر وتقدير على تدمير 53 بيتاً في قرية باقة الغربية. وقد بلغ عدد البيوت التي دمرها الاحتلال البريطاني خلال الفترة من 1936-1940 أكثر من 2000 بيت. ولعل من المثير مجدداً عقد مقارنة بين ماقام به البريطانيون قبل أكثر من سبعين عاماً وما تفعله إسرائيل اليوم، لنجد أنفسنا أمام الممارسات والطريقة ذاتها في النفي والتنصل من التهم.

مونتغمري يتولى مهمة قمع الثورة

لم تجد إجراءات القمع البريطانية من إعدامات وإرهاب شارك فيها 25 ألف جندي جديد وصلوا البلاد لإنهاء انتفاضة الفلسطينيين التي تواصلت بوتيرة متعاظمة. وجدت القيادة العسكرية البريطانية نفسها مجبرة على إرسال قائد دموي جديد إلى فلسطين لتنفيذ المهمة التي عجز عنها وينغيت. وقع الاختيار على القائد الشهير الجنرال بيرنارد مونتغمري، الذي كان يختلف مع المسئولين العسكريين والسياسيين البريطانيين فيما ينبغي اتخاذه من إجراءات في فلسطين. كان القائد الجديد في فلسطين يرى ضرورة تصعيد الإجراءات البوليسية بل وتبني إجراءات أشد قسوة لسحق الثورة، وهو المونتغمري نفسه الذي قاد الجيش البريطاني في معركة العلمين لاحقاً. رفض مونتغمري تقبل وجهة نظر الإدارة البريطانية في فلسطين، القائلة بأن الثورة الفلسطينية كانت تعبيراً عن رؤية حركة وطنية طبيعية، وكان يرى بأنها حرب بمعنى الكلمة ينبغي التعامل معها بدون تهاون أو رحمة، وبأن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الثورة هي قتل القائمين عليها وهو ما أمر جنوده بفعله. كانت تعليمات مونتغمري تنص على عدم إطلاق سراح المعتقلين من الثوار على أسس سياسية، حيث سبق فشل مثل هذه السياسة في أيرلندا. وهكذا وجد ثوار فلسطين أنفسهم في مواجهة جيش نظامي كبير تدعمه الهاغاناه اليهودية بالتعاون الكامل مع الوكالة اليهودية.

الورقة البيضاء..

مع تعاظم احتمالات نشوب الحرب العالمية الثانية ، بدأ شعور بالقلق يساور الساسة البريطانيين من تبعات الاستمرار في النهج المعادي للعرب والمؤيد لليهود في فلسطين، وبعد فترة من المشاورات والدراسات ، صدر عن الحكومة البريطانية في مايو 1939 ما عرف بالورقة البيضاء، التي تتحدث عن إقامة دولة مستقلة ثنائية الجنسية في فلسطين في غضون عشرة أعوام. كما نصت الورقة على فرض قيود على الهجرة اليهودية تحدد العدد المسموح به عند 75 ألف مهاجر في السنوات الخمس التالية، وبما يسمح برفع عدد اليهود إلى الحد الذي يشكلون فيه ثلث عدد سكان فلسطين، وعلى أن تخضع أي زيادة مستقبلية لموافقة الجانب العربي. واقترحت الورقة البيضاء فرض قيود على نقل ملكية العقارات العربية إلى اليهود

اتسمت ردة فعل بن غوريون حيال الورقة البيضاء بالغضب الشديد فكتب يقول معلقاً:” من الصعب تصور سياسة أكثر إثماً وحماقة وافتقاراً لبعد النظر”. كان بن غوريون يعتقد بأن الورقة البيضاء شكلت تراجعاً واضحاً من قبل الحكومة البريطانية عن وعد بلفور.

بعد مرور شهر على صدور الورقة البيضاء التي ساهمت مع إجراءات مونتغمري القمعية في تهدئة الانتفاضة في فلسطين، اعتقد الجنرال البريطاني بأنه قضى على الثورة الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، إلا أن الأمر كان غير ذلك. فهذا وزير المستعمرات أورسمبي غوور يقول:” العرب يقتلون اليهود وهؤلاء

بدورهم يقتلون العرب، هذا ما يحدث في فلسطين حالياً وهذا ما سيبقى قائماً حتى بعد 50 عاماً على الأغلب.. وإذا كان الغدر وعدم الوفاء بالعهود سمة العرب فإن الطمع هي السمة الغالبة على اليهود كلما وجدوا أنفسهم في وضع لا يتعرضون فيه للقمع والعداء.. أنا على قناعة بأنه من الصعب أن تثق بحكم العرب لليهود، بالقدر نفسه الذي لا يمكن فيه الوثوق بحكم اليهود للعرب”.

قررت الوكالة اليهودية ضم الصفوف مع البريطانيين والقتال إلى جانب القوة العالمية الرئيسية آنذاك في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا، ليكتسب بذلك تعاونهم مع الجيش البريطاني في فلسطين الصفة الرسمية. كانت الوكالة اليهودية تخطط لاستغلال ظروف الحرب لتعظيم قوتها العسكرية من حيث الكم والنوع .تم استخدام اليهود في أعمال التجسس والتخريب في سوريا والعراق وهناك فقد موشيه دايان إحدى عينيه.

جاء زحف الألمان باتجاه مصر واحتمال وصولهم إلى فلسطين ليثير الرعب في صفوف يهود فلسطين، لدرجة أن زعماء الوكالة اليهودية فكروا بمغادرة فلسطين والتوجه للمنفى غير أن مونتغمري الذي أنقذ اليهود من الثورة الفلسطينية هو الشخص نفسه الذي أنقذهم من الألمان في العلمين.

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل