زَوَرّوا لنا التاريخ لنبقى خارج التاريخ. (3) دور الجمعيات السرية القومية التركية والعربية في هدم الدولة العثمانية مروراً لإحتلال فلسطين
د. عبد الحي زلوم
الشباب العربي و"الثورة العربية"
أفرزت المؤامرة الماسونية اليهودية ، على حد تعبير السفير البريطاني في اسطنبول، إلى جانب الشبيبة الأتراك الذين أطاحوا بالخلافة ، حركة عربية مشابهة كان معظم قادتها من الماسونيين. ويعود تنظيم أول جمعية سرية عرفها العالم العربي إلى عام 1875 على يد خمسة من الشبان العرب كانوا جميعا من خريجي الكلية البروتستنتينية السورية ( الجامعة الأمريكية في بيروت لاحقاً)، و كانوا جميعاً من الأقليات . وفي ذلك يقول جورج أنتونيوس في كتابه المعنون:" اليقظة العربية"، بأن الماسونية على الطريقة الأوروبية تكون بذلك قد وجدت طريقها إلى سوريا، ".
بدأت الجماعة بتوزيع منشورات وتعليق لافتات في الشوارع دفاعاً عن القومية العربية، وتحمل هجوماً على الدولة العثمانية. ومما جاء في برقية أرسلها القنصل البريطاني في بيروت إلى وزارة الخارجية في لندن بتاريخ 28 يونيو 1880 القول:" ظهرت الشعارات الثورية المكتوبة في شوارع بيروت، وهناك شكوك بأن يكون مدحت هو الذي يقف خلف هذا الأمر.. مع ذلك لا يزال الهدوء سائدا.. التفاصيل تصلكم في البريد القادم".
أجرى الكاتب جورج أنتونيوس لقاءً مع أحد مؤسسي الجمعية السرية وهو د. فارس نمر باشا، وكان وقتها قد تجاوز الثمانين. والمذكور ماسوني من الدرجات العالية، هاجر إلى مصر عام 1883 حيث شارك في تأسيس صحيفة المقتطف وجريدة المقطم اللتين كانتا تصدران في القاهرة. وكان ضمن مجموعة من الموارنة والماسون الذين ارسلوا من الغرب الى مصر كجورجي زيدان الذي اسس دار الهلال وكذلك الأخوان بشارة وسليم تقلا اللبنانيان اللذان أساسا جريدة الأهرام سنة 1875 . أما سليم النقاش فأصدر جريدة "مصر " سنة 1877 وجريدة المحروسة 1880 . نلاحظ ان هذه الهجمة الاعلامية قد تمت في نفس الوقت الذي اجبرت بريطانيا الخديوي اسماعيل على بيع اسهم مصر في شركة قناة السويس سداداً لبعض الديون ثمّ جاءت بوزارة مصرية تم تعيين بريطاني وفرنسي بشكل مباشر لشؤون المالية والاقتصاد . وهكذا تم السيطرة على الاعلام في أكبر دولة عربية. استمرت الهجمة الثقافية على مصر من لبنان في مجال السينما كان المخرجون والممثلون يوسف شاهين ويوسف معلوف وهنري بركات وانور وجدي وبشارة واكيم جميعاً من الاقليات اللبنانية وكذلك المسرح حيث كان جورج ابيض وفتوح نشاطي . كما
اخرج اليهودي مزراحي فلم سلامة اول فلم لام كلثوم . وما لا افهمه لماذا تمّ افتتاح شارع في مدينة القدس مؤخراً بإسمها وبحضور رئيس البلدية العنصري .
على مدار سنوات حكمه الثلاثين ، لم يواجه السلطان عبد الحميد معارضة عربية باستثناء مرتين: الأولى في بداية عهده في الحكم، وكان ذلك من قبل الجمعية السرية في بيروت، والثانية في أواخر أيامه وكانت من قبل حركة مشبوهة نادى صاحبها عبد الرحمن الكواكبي بأن يكون الخليفة عربياً بالضرورة، إيذاناً بظهور الأجندة البريطانية التي أصبحت سياسة ثابتة ومنهجية للإمبريالية البريطانية في المنطقة، والقائمة أكثر ما يكون على تفتيت الإمبراطورية العثمانية وإقامة دولة يهودية في فلسطين. ولتعظيم عوامل وأدوات تفكيك الدولة العثمانية المسلمة، برز دور حزب الاتحاد والترقي من الطرف الآخر في المطالبة بـ: "تتريك" الإمبراطورية؛ أي اللعب على وتر القومية، لكي يعطي السكان العرب سبباً إضافياً للامتعاض والمطالبة بالانفصال عن الإمبراطورية العثمانية. وفي أفضل تقدير لم يكن الكواكبي سوى شخصية غامضة مشبوهة من خلال المطالبة بإلغاء لقب السلطان واستبداله بالخليفة، الذي يشترط بأن يكون: عربياً قرشي المولد ومقره مكة"، طبقاً لما أورده أنتونيوس في كتابه : اليقظة العربية. هل كان الكواكبي نبياً قادراً على استشراف الأجندة البريطانية الخاصة بدور الشريف حسين، أم كان مجرد بوق دعاية استخدمه الإنجليز لترويج هذه الأجندة؟
بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد عام 1908 قرر الإنقلابيون بقيادة الاتحاد والترقي تعيين الشريف حسين بن علي-الذي كان في اسطنبول وقتها ممثلاً للحجاز- شريفاً أكبر على مكة. عن هذا الموضوع يقول جورج أنتونيوس في كتابه: اليقظة العربية:" كان الشريف حسين قد دخل في علاقات ودية مع السفارة البريطانية حيث بادلته الود ... وعلم بأن ترقيته إلى منصب الشريف الأكبر عام1908 جاءت بدعم سري من انجلترا".
قابل الشريف حسين الموقف البريطاني هذا بكثير من الإعجاب والامتنان، الأمر الذي انعكس على أجواء المفاوضات التي أجراها مع البريطانيين خلال الحرب وبعدها، إلى أن علمته التجارب بأن إعجابه بالبريطانيين لم يكن في محله.. غير أن استفاقته على حقيقة البريطانيين جاءت متأخرة وبعد أن انتهى الأمر به إلى المنفى في قبرص.
من المعروف بأن السلطان عبد الحميد نجح في تجريد أعداء الإسلام من ورقة إثارة الغضب العربي، من خلال سياساته الإسلامية والعربية حيث لا فرق بين عرب وترك وغيرهم من الأعراق. كل ذلك تغير بعد تولي الاتحاد والترقي السلطة الحقيقية في اسطنبول، حيث بدأت سياسة تنفير واستعداء العرب بشكل سري في البداية، قبل أن تكتسب ممارسات السلطات الجديدة سمة العلن. كان الهدف من السياسات العنصرية التي استهدفت العرب بصورة رئيسية، إثارتهم ودفعهم للانقلاب على الإمبراطورية العثمانية.. الواقع أن القوى نفسها التي أوجدت المتآمرين والجمعيات السرية للشبيبة الأتراك تضافرت وحشدت قواها مجدداً لتكرار السيناريو نفسه في العالم العربي.
جمعيات "الفتاة والعهد" السرية
كانت "القحطانية" أول جمعية سرية يتم تشكيلها في إطار الانقلاب العربي على الإمبراطورية العثمانية، بتشجيع من بريطانيا وحكام اسطنبول العلمانيين الجدد. وقد تأسست الجمعية في السنة نفسها التي تمت فيها الإطاحة بالسلطان عبد الحميد، وبهدف معلن هو العمل على إقامة كيانين على أنقاض الإمبراطورية
العثمانية: كيان تركي وآخر عربي. لعل أكثر ما يثير الانتباه بشأن الجمعية المذكوره حقيقة أن رئيسها المدعو عزيز علي المصري كان العربي الوحيد العضو في حزب الاتحاد والترقي. ضم تنظيم الفتاة والعهد عدداً من كبار الضباط في الجيش التركي وكانت الجمعية المذكورة تعمل بالطريقة نفسها الماسونية من حيث السرية والتكتم واستخدام لغة الإشارات في تحديد هوية الأعضاء. وبحلول 1914 كان عزيز المصري قد تمكن من تحويل القحطانية إلى منظمة سرية جميع أعضائها من العسكريين، والتي أصبحت تنشط تحت اسم جديد هو: العهد.
أسس جمعية "الفتاة" سبعة من الطلبة العرب الدارسين في باريس، وبدعم من القوى نفسها التي أوجدت ودعمت الاتحاد والترقي. وعليه فإنه يمكن القول وبكثير من الثقة بأن الشبيبة الأتراك والشبيبة العرب ينبعان من الجذور ذاتها، بدون أن يدركا ذلك بالضرورة، بل إن القوى التي تحركهما وهي واحدة في كلتا الحالتين اعتادت على دفعهما للتصادم، ولكن من أجل تحقيق الهدف الأكبر ، تفكيك الإمبراطورية العثمانية.
لم يكن برنامج جمعية الفتاة ليختلف في شيء عن جمعية بيروت السرية المدعومة من المحافل الماسونية في سوريا الكبرى. كانت الجمعيتان تعملان طبقاً للأسس التي تحكم تنظيم الماسونية وعملها. الأمر الذي يوضحه جورج أنطونيوس في كتابه: اليقظة العربية، بالقول:" كان الانضمام لهذه الجمعيات يتم بترشيح من الأعضاء الحاليين ممن أقسموا يمين الولاء. وقبل أن يتمكن الأعضاء الجدد من التعرف على زملائهم السابقين سيكون عليهم اجتياز الاختبارات اللازمة والبرهنة على قدراتهم، وذلك قبل استدعائهم لأداء قسم الولاء للجمعية لدرجة التضحية بالنفس في خدمتها إذا اقتضت الحاجة".
بقيت جمعية الفتاة تعمل من مقرها في باريس حتى عام 1913 عندما انتقلت إلى بيروت، ومنها إلى دمشق في العام التالي في تزامن مع تأسيس جمعية العهد. وقتها لم يكن من السهل الوصول لقيادة أي من الجماعات السرية، حيث ظلت القيادة محصورة بعدد قليل جداً ومختار من الأشخاص لضمان عملية التنسيق والتناغم بين أعضائها. شكل التكتم والحذر كلمة السر في نشاط وعمل الجماعات السرية هذه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، واحتلال العالم العربي من قبل فرنسا وبريطانيا. وقتها لم تعد السرية مطلوبة لأن المهمة الفعلية كما أرادتها القوى الاستعمارية ومن يقف خلفها من الماسونية اليهودية قد أنجزت بالفعل. كما تبين لاحقاً كان من بين أعضاء هذه الجمعيات نوري السعيد ومن على شاكلته من خدمو الاحتلال البريطاني والفرنسي وكانو "محمود عباس" عصرهم!.
تعميد فيصل في الجماعات السرية
كان أول اتصال للجماعات السرية الرسمية بالشريف حسين من خلال المدعو فوزي البكري، الذي يعمل في الحرس الخاص بالشريف الأكبر. والمذكور هو الشقيق الأصغر لأحد الأعضاء القياديين في جمعية الفتاة في دمشق: نسيب البكري الذي رتب لأخيه فرصة الالتحاق بخدمة الشريف حسين من الأساس، استعداداً لخدمة الجمعية وأهدافها عند اللزوم في المستقبل. طلب نسيب، العضو المحلف في الجمعية وبالاتفاق مع قيادتها، من أخيه تمرير رسالة سرية إلى الشريف الأكبر، مؤداها أن القادة العرب في الحركة القومية في سوريا والعراق يفضلون الثورة على تركيا، ويودون معرفة ما إذا كان على استعداد للقيادة، وبأن بإمكانهم إرسال وفد إلى مكة أو استقبال ممثلين عنه في دمشق لبحث هذا الموضوع. وبالطبع فإنه لم يتم تحميل فوزي بالرسالة الشفهية إلا بعد أن تم تعميده رسمياً كعضو محلف في الجمعية.
أرسل الشريف حسين نجله الأمير فيصل لجس نبض القائمين على الجمعيات السرية في رحلة ستنقله إلى اسطنبول. وصل فيصل إلى دمشق بتاريخ 26 مارس 1915 ومكث هناك حوالي شهر، حظي خلالها
بترحيب من جمال باشا الذي وجه إليه دعوة للإقامة في مقره، إلا أنه أبلغه برغبته في الحلول ضيفاً على عائلة البكري. كانت الفترة التي قضاها فيصل في دمشق كافية لإقناعه بالانضمام للجمعيات السرية. في البداية أعرب فيصل عن التخوف من النوايا والخطط الأوروبية، ومن أن العرب قد يجدون أنفسهم أمام عملية استبدال حكم يعرفونه باحتلال آخر مجهول بالنسبة لهم. وهنا أبلغه قادة الجمعيات بأنهم لن يترددوا في الانضمام إلى تركيا في حالة اكتشاف وجود خطط أوروبية سرية تجاه المنطقة. أصبح فيصل بعدها عضواً في الجمعيات السرية بدءاً بالفتاة ومن ثم العهد التي أبهره استعداد قادتها لتفجير الثورة في أي لحظة.
جاء في كتاب{ Power, Faith and Fantasy, Michael B. Oren}
"في الوقت الذي نجح فيه البريطانيون في إشعال الثورة العربية ضد تركيا، وحشد العديد من القوميين لصالح قضيتهم، فإن الثورة جاءت حصيلة الرغبة في إحياء الخلافة العربية النقية المستقلة عن الأتراك الغربيي الميول والأهواء، أكثر منها تأثراً بالدوافع القومية. كان متمردو مكة على قناعة بأن الإسلام هو وحده القادر على توحيد العرب الذين لا يمكنهم الالتئام تحت راية عرقية أو ثقافية"
لم يكن وارداً في بال الشريف حسين، في يوم من الأيام، أن يكون أداة لتدمير مؤسسة الخلافة الإسلامية الموجودة من أيام الرسول محمد (صلعم) حتى أيامه. غير أن شخصية ابنه فيصل التي يغلب عليها التشكك والسذاجة، وخاصة فيما يتعلق بتصديق الوعود البريطانية، إضافة لسياسات الاتحاد والترقي العنصرية ، تضافرت جميعاً لإقناعه بالسعي وراء إعادة الخلافة للأيدي العربية وليس تدميرها كما كان يخطط الإنجليز والقوميون العرب منهم والأتراك. مثل هذه القناعة لم تتغير وكانت سبباً لإسقاطه عن العرش ونفيه إلى قبرص.
ولعل سوألاً يطرح نفسه (والذي سأكرره في نهاية كل مقالة من هذه السلسلة ): أيهما أفضل، مشروع السلطان عبد الحميد الذي يبقي على وحده عربية وإسلامية والعمل على تطويرها وإصلاحها أم الكيانات التي يحكمها شيوخ قبائل أو كيانات تعاني من الصراعات العرقية والاثنية والمذهبية التي لم ترتقي بعد 100 عام لكي لا تصبح أكثر من دولة فاشلة؟
مستشار ومؤلف وباحث