زَوَرّوا لنا التاريخ لنبقى خارج التاريخ (4) جاء الجنرال اللنبي إلى فلسطين ومعه جيش يهودي وحكومة ظل يهودية بدأت عملها من أول يوم للاحتلال
د. عبد الحي زلوم
في يناير1915 ، وبعد دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب، رفع صامويل هيربرت-وزير دولة يهودي في حكومة آسكويث- إلى رئيس الوزراء بمذكرة في محاولة لترويج فكرة تحويل فلسطين إلى محمية بريطانية لتسهيل هجرة أعداد كبيرة من اليهود إليها تمهيداً لتحويلها إلى وطن قومي لليهود. ادّعى هيربرت في مذكرته بأن في مثل هذه الخطوة خدمة للمصالح البريطانية في المقام الأول. وقتها لم ترق الفكرة لرئيس الحكومة ولدى توزيع نسخة منقحة من مذكرة هيربرت على الوزراء في مارس 1915، لم يجد اقتراحه دعماً يذكر سوى من وزير واحد هو لويد جورج. كان وزير الحرب كيتشنر من أشد المعارضين للفكرة، مشدداً على أن فلسطين لا تمثل أهمية إستراتيجية لبريطانيا.
محض مصادفة!.. أم ماذا ؟
لم يكن للمشروع الصهيوني في فلسطين أن يتحرك قدماً قبل التخلص من المعارضين الرئيسيين له: رئيس الوزراء البريطاني آسكويث ووزير حربيته كيتشنر… وهو ما حصل بالفعل. فقد تمت إزاحتهما من الطريق وإن بطريقين مختلفين. تم استبدال آسكويث بالشخص الوحيد داخل الحكومة الذي أبدى تحمسه للمشروع منذ اليوم الأول لعرضه على الحكومة في مارس 1915. وفي الوقت نفسه فقد تم ترتيب رحلة بحرية لوزير الحرب كيتشنر وعدد من مساعديه إلى منطقة تعج بسفن العدو، كانت رحلة ذهاب دون إياب للوزير. يروي ديفيد فرومكين } وهو يهودي{ ما حدث للوزير كيتشنر بالقول:” في سكابا فلو، الواقعة على الحافة الشمالية للساحل الأسكتلندي، حيث مركز قيادة الأسطول الكبير،استقل الوزير كيتشنر ومساعده المقرب فيتزجيرالد السفينة الحربية هامبشاير ، وكان ذلك عصر الخامس من يونيو1916، وأبحرت بهم باتجاه ميناء آرشجانجل الروسي. ومع ورود أنباء عن تحركات للغواصات الألمانية قريباً من الخط البحري الذي ستسلكه السفينة هامبشاير ، فقد كان ينبغي تغيير خط سيرها كإجراء طبيعي وحتمي، وهو أمر لم يحصل. وكانت استخبارات الأسطول قد اعترضت رسالة لاسلكية ألمانية للغواصة الألمانية يو-75 المتخصصة في زرع الألغام البحرية تفيد : أن الغواصة كانت في مهمة لتلغيم مسار السفينة البريطانية التي تقل الوزير كيتشنر ومساعديه. كما تأكد لاستخبارات الأسطول الخطر المحيط بالوزير من رسالتين أخريين تم التقاطهما بهذا الشأن، بالإضافة إلى أنه تم رصد وجود الغواصة الألمانية في المكان نفسه”.
كتب المؤرخ فرومكين يقول بأن الاستخبارات البريطانية اختارت التكتم على معرفتها بتلغيم خط إبحار سفينة الوزير كيتشنر، وبقي الأمر سراً حتى نشر الوثائق السرية عام 1985 أي بعد مرور حوالي سبعين عاماً على الحادثة.
مع وجود لويد جورج على رأس الحكومة وبلفور وزيراً للخارجية تكون الظروف السياسية في بريطانيا، قد أصبحت مواتية لاتخاذ خطوة حاسمة باتجاه وضع اقتراح هيربرت صامويل موضع التنفيذ. فبعد تمرير الاقتراح داخل الحكومة صدر عن وزير الخارجية بلفور وعده الشهير، وتم تعيين هيربرت صامويل نفسه ليكون أول مفوض عال بريطاني في فلسطين تحت الانتداب.
عن التحرك البريطاني للاستيلاء على فلسطين تقول إليزابيث مونرو في كتابها المعنون: لحظة بريطانيا في الشرق الأوسط، بأن” فكرة استيلاء بريطانيا على فلسطين وجدت هوى كبيراً لدن لويد جورج لأسباب تتعلق بنشأته الدينية.. وخلال أيام من توليه رئاسة الحكومة سارع إلى بث حياة جديدة في الخطط الخاصة بالتحرك باتجاه فلسطين انطلاقاً من مصر، وفي5 من أبريل 1917، اجتمع لويد جورج بمارك سايكس عشية توجهه للمنطقة، وزوده بتعليمات بضرورة بذل كل جهد ممكن لتحويل فلسطين إلى مستعمرة بريطانية، وعدم قطع أي تعهدات للعرب، وفي الوقت نفسه عدم الإقدام على أي تصرف قد يثير حفيظة الحركة الصهيونية”.
تم إرسال أورمسبي غوور للشرق الأوسط لإدارة المكتب العربي في القاهرة. وهناك وجد نفسه مسؤولا وبصورة مباشرة عن شبكة تجسس يهودية تنشط في فلسطين برئاسة آرون آرونسوهن، وكان البريطانيون يعتمدون على الشبكة المذكورة في رصد تحركات القوات التركية. ما إن تولى لويد جورج رئاسة الحكومة البريطانية حتى بادر أميري إلى تفعيل خطة وضع فلسطين تحت الاحتلال. وكان لويد جورج قد روّج مشروع تحويل فلسطين إلى دولة يهودية، وعليه فقد بدأت عملية وضع الخطط اللازمة ولتتحول هذه الفكرة إلى هدف منشود للإمبراطورية البريطانية. وفي هذا الصدد تم تشكيل الفيلق اليهودي، وليدخل فلسطين مع الجيش البريطاني الزاحف.
الاحتلال البريطاني لفلسطين
في حملته لاحتلال فلسطين بدأ الجنرال اللنبي تحركه بنشر 56 ألف عامل و3500 جمل لمد خطوط سكة الحديد وخطوط التزود بالمياه خلف قواته. ومع اكتمال احتلال فلسطين، كان الجنرال اللنبي قد نشر 350 ألف جندي، منهم 100 ألف مصري وعشرات الآلاف من الهنود، بالإضافة إلى آلاف من الاستراليين والنيوزيلنديين، إلى جانب 160 ألف حصان وجمل. كما انضمت قوات فيصل لحملة الجنرال لتجد نفسها تشارك في الحملة البريطانية إلى جانب فيلق جابوتنسكي اليهودي، الذي لم يقم بمهمات قتالية باعتباره سيكون نواة الجيش اليهودي في فلسطين. تم تشكيل الفيلق اليهودي كوحدة من الجيش البريطاني، في معظمه من متطوعين يهود يعيشون على الأرض الأمريكية برضا وربما بمباركة إدارة ويلسون التي لم تظهر أي اعتراض عندما بدأ جابوتنسكي تجنيد اليهود الأمريكيين.
أمر لويد جورج الجيش البريطاني في مصر بغزو فلسطين. فكان أن زحفت القوات البريطانية بقيادة الجنرال سير ارشيبالد موراي باتجاه فلسطين ولكي تمنى بهزيمة في أول معركة في غزة، المدينة الرئيسية على الطريق الساحلي إلى فلسطين. كانت الخسائر في صفوف الجيش البريطاني ضعف ما كانت عليه في صفوف المدافعين. وبعد إعادة تجميع للقوات وورود المزيد من التعزيزات، شن موراي هجوماً جديداً بتاريخ26 أبريل 1917 ليحصد الفشل مجدداً، غير أن خسائر القوات البريطانية هذه المرة بلغت ثلاثة أضعاف ما أصاب المدافعين عن غزة، الأمر الذي أجبر القائد الإنجليزي على الانكفاء بقواته عائداً إلى مصر، حيث تم استبداله بالجنرال إيدموند اللنبي في يوليو 1917، الذي وجد نفسه أمام مهمة محددة من حيث المكان والزمان: فقد كانت الأوامر الصادرة تقضي باحتلال فلسطين ودخول القدس قبل الكريسماس المقبل. تم تعيين ريتشارد ميمرتزباجن على رأس وحدة الاستخبارات العسكرية، يساعده في ذلك ويندهام ديدس كضابط سياسي وخبير في الشؤون العثمانية، وتدعمهما خلايا تجسس يهودية بقيادة ليفين وآرون آرونسهون.
كان الجنرال اللنبي ومعظم جنرالاته من المسيحيين الصهاينة، ممن أداروا حملة فلسطين بأندفاع ديني محموم وروح صليبية وقادة. فقد لجأ اللنبي إلى القساوسة المبشرين لإذكاء روح القتال لدى الجنود حتى وهم على أرض مصر الإسلامية، استعداداً للزحف على فلسطين. ومن بين المبشرين هؤلاء القس البروتستنتي أوزوالد تشامبرز صاحب كتاب: “أقصى ما أملك.. للرب الأسمى”، الذي اعتاد جورج دبليو بوش قراءته وهو يستعد لشن حملته “الصليبية” المعاصرة على العراق. وعندما قابل موشيه سميلانسكي أحد جنود اللنبي بالقرب من يافا ويدعى سيد شيرسون القادم من أستراليا، قال عنه سميلنسكي:” ترك هذا الراعي الشاب قطعان غنمه وراءه ليتطوع في الجيش الذي سيغزو فلسطين، متأثراً بقراءة الإنجيل الذي اعتاد عليه منذ الصغر، والذي علمه بأن أرض الإنجيل اغتصبت من شعب الإنجيل”.
حمل جيش اللنبي معه إلى فلسطين جيشاً يهودياً بقيادة جابوتنسكي، وحكومة ظل يهودية تحت مسمى المفوضية اليهودية برئاسة حاييم وايزمان. نزل وايزمان بإعتباره رئيساّ للمفوضية اليهودية في معسكر اللنبي في الرملة. وعندما دعاه اللنبي إلى دخول القدس معاً، رفض وايزمان العرض على أساس أن الوقت ليس مناسباً ، وبأن من شأن ذلك إثارة الحساسيات وقتها، ولخص موقفه من القائد البريطاني وقتها بالقول: ” اللنبي منا وإلينا”. استمر الحكم العسكري البريطاني لفلسطين عامين ونصف كان الجنيه المصري خلالهما هو عملة التداول القانونية.. في معركة القدس نشر البريطانيون 26 ألف جندى، منهم 8 الاف من سلاح الفرسان، سقط منهم خلال المواجهة الشرسة مع العثمانيين 1667 جندياً وأكثر من 5 آلاف حصان.
كان للحلف الماسوني اليهودي دوره الكبير في حرب فلسطين، بما في ذلك قيام الخلايا الماسونية هناك بتزويد اللنبي بالمعلومات الاستخباراتية الحيوية. ومن أبرز هذه الخلايا تلك التي قادها ألتر ليفين، الذي كان ينشط تحت غطاء العمل في تسويق بوالص التأمين. وعندما انكشف أمره للاستخبارات التركية التي حاولت اعتقاله لجأ إلى حماية خليل السكاكيني- المدرس الفلسطيني – الذي آواه في بيته. وطبقاً لما ورد في كتاب: فلسطين واحدة كاملة، للمؤرخ الإسرائيلي توم سيجيف، فإن السكاكيني “كان انضم للمحفل الماسوني في القدس وكان ليفين أحد أعضاء المحفل المذكور”.
عن هذا الأمر كتب ضابط الاستخبارات التركي زكي بيك في مذكراته يقول بأن ليفين كان يدير شبكة للتجسس عبر سوريا الكبرى بما فيها فلسطين. ومن خلال مجموعة دور بغاء، استطاع الجاسوس اليهودي جمع معلومات قيمة، مستخدماً أسلوب الابتزاز في جمع المعلومات من الضحايا، وكثير منهم شخصيات سياسية وعسكرية.
وبعد احتلال القدس استقر المقام باللواء اليهودي في فلسطين ليشكل نواة القوات المسلحة الإسرائيلية في المستقبل، بينما واصلت قوات فيصل تقدمها شمالاً لمقاتلة القوات التركية المتراجعة. سقطت القدس بتاريخ 11 ديسمبر 1917 ودخلها الجنرال اللنبي مع ضباطه من باب يافا، حيث أعلن منها وأنه ألان فقط انتهت الحروب الصليبية وأعلن الأحكام العرفية والحكم العسكري على فلسطين. “. وفي لندن دقت أجراس كاتدرلئية ويستمينستر لأول مرة منذ ثلاث سنوات ابتهاجاً بعودة القدس إلى حظيرة الكنيسة.
نحن لا نكتب هذا التاريخ لا لنعيش في الماضي ولكن لكي نتعلم للحاضر والمستقبل. فما هي الدروس من سرد هذه الوقائع:
ü أن الاستعمار الغربي أياً كانت القوة المهيمنة فيه في هذا الوقت أو ذاك هو سبب المشكلة ولا يمكن أن يكون أبداً جزاء من الحل.
ü إن التغييرات الكبرى لزرع كيان غريب في فلسطين قد إستغرق عشرات السنين. وبوجود قيادة حكيمة، قوية الشكيمة، وبخلق الأدوات التنظيمية المناسبة، وبوضوح الهدف والأساليب لتحقيقه فهذا الكيان الغريب زائل لا محالة.
ü لا يهبط الاستعمار ولا الهزيمة من السماء ولكن دوماً بوجود عناصر من الداخل هي دائماً خط الدفاع الأول عن العدو.
ü ودائماً يسبق الغزو العسكري غزو ثقافي لإستعباد العقول. عن ذلك قال إبن خلدون أن أسوأ أنواع العبودية هو عبودية العقل.
ويبقى السوأل: هل كان تغير النظام العثماني على مساوئه ، وكانت كثيرة، والتي كان المشرق العربي فيه كتلة واحدة، هو أفضل الحلول أم أن العمل على إصلاحه من الداخل كان أفضل من خلق الكيانات الهزيلة التي جاءت بعده والتي فشلت أن تكون أكثر من دول فاشلة حتى بعد أكر من 100 سنة؟
مستشار ومؤلف وباحث