زوروا لنا التاريخ لنبقى خارج التاريخ (2) السفير البريطاني لحكومته: " اليهود سيطرو على حزب الاتحاد والترقي عبر شبكة ماسونية وبمساعدات السفير الأمريكي اليهودي أوسكار ستراوس"

د. عبد الحي زلوم

لعل أحد أنصع الأمثلة على تزوير التاريخ هي الصورة التي رسمها الاستعماريون للسلطان عبد الحميد في حين أن الرجل كان مصلحاً ووطنياً ومؤمناً من الدرجة الاولى دفع عرشه لقاء ذلك .

كما يعترف لورد كنروس في كتابه المعنون: "القرون العثمانية.. ظهور وسقوط الإمبراطورية العثمانية"، بأن "عبد الحميد عزز النظام التعليمي بأنشاء 18 مدرسة ثانوية ومهنية متخصصة جديدة غطت العديد من المجالات، مثل الاقتصاد والفنون الجميلة والهندسة المدنية والشرطة والأزياء. كما أسس جامعة اسطنبول، وأوجد الأسس الاقتصادية والتعليمية والمهنية الكافية لخلق طبقة متعلمة ونخبة من موظفي الخدمات المدنية المدربين وإداريين أكفاء لتدبير شؤون "النظام الحميدي "..وطور الكلية الحربية وكليات البحرية والطب للأغراض المدنية والعسكرية. كما عمل السلطان عبد الحميد على توسيع قاعدة القراءة العامة من خلال تشجيع النشر وظهور المزيد من المطبوعات من صحف ومجلات وكتب. وتكتسب هذه الإنجازات أهمية خاصة وإضافية في ظل حقيقة أن خزينة الدولة كانت فارغة والإمبراطورية تعاني من عجز في القدرة على الوفاء بديونها الخارجية الخانقة لدى تسلم السلطان عبد الحميد الثاني مهام الحكم.

شكل توحيد العالم الإسلامي تحت راية واحدة، حلم السلطان عبد الحميد الذي جهد في العمل على تحقيقه منذ اليوم الأول له في الحكم. وفي وضع إستراتيجيته موضع التنفيذ بكثير من الاجتهاد والهمة العالية، وذلك من خلال توسيع اتصالاته مع الطوائف الإسلامية المختلفة داخل الدولة وخارجها. وكانت قد اتضحت أكثر ما يكون ومن البداية بتعيينه الشركسي الجنرال خير الدين في منصب الوزير الأعظم (رئيس الوزراء هذه الأيام) كما أنه عين الكثير من العرب في مراكز حساسة . وذلك في خروج على التقليد المتبع وهو وضع شخصية تركية على رأس الحكومة. ولم يُخْفِ السلطان الأسباب التي دفعته لمثل هذا التصرف؛ إذ شرحها في الفرمان الخاص بتعيين رئيس الحكومة، والذي جاء فيه القول بأن... من حقه كخليفة الاستفادة من خبرات أكفأ العناصر المسلمة في أي مكان من أرض الإسلام. ما فعله السلطان كان إيصال رسالة واضحة للمسلمين في كل مكان من أن خليفتهم سيختار تعيين كبار المسؤولين من الأعراق كافة بدون إعطاء الأتراك آية أفضلية . غير أن السلطان بمثل هذه السياسة الإصلاحية والموحدة للمسلمين ما كان إلا وأن يثير المزيد من عداء أوروبا وأمريكا تجاه الدولة العثمانية وبشكل أكبر من أي وقت مضى".

من الجدير بالذكر الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية اختارت يهوداً لشغل مناصب سفراء وقناصل لدى الدولة العثمانية على مدار معظم سنوات القرن التاسع عشر، بما فيها آخر سنوات الدولة العثمانية. كما أن السفراء الذين خلفوا السفير الأمريكي اليهودي أوسكار شتراوس في اسطنبول مع دخول القرن العشرين كانوا جميعاً من اليهود، ومنهم: هنري مورغنثا و وأبراهام إيلكوس وسولومون هيرش. وكان الرؤساء الأمريكيون قد شرعوا ومنذ 1881 في ممارسة الضغوط على السلطان عبد الحميد للسماح بهجرة المزيد من اليهود إلى فلسطين. غير أن الشخصيات الدينية البروتستنتينية المتحمسة لعودة اليهود وصولاً لعودة المسيح، ومعهم السفراء الأمريكيون اليهود في المنطقة لم تنجح في النيل من عزيمة

السلطان العثماني وتصميمه على عدم التفريط بالقدس. كان موقف السلطان عبد الحميد، كما أبلغه للوسطاء الأمريكيين، بأن فلسطين ليست ملكاً للسلطان بل هي ملك للمسلمين جميعاً، وبالتالي لا يملك السماح بإحداث أي تغيير في واقعها أو المساس بوحدتها.

كان السلطان عبد الحميد يقدم على عكس كل شيء يريده المبشرون منه، ويجسد كل ما هو مخيب للآمال بالنسبة لهؤلاء وللغرب وبخاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين . فقد رفض السلطان العرض المغري الذي تقدم به ثيودور هيرتزل لتسديد سائر ديون الإمبراطورية، مقابل صك يسمح لليهود باستيطان فلسطين. ومما جاء في رد السلطان عبد الحميد الثاني على عرض هيرتزل بهذا الشأن القول:" أن أسمح بتقطيع أجزاء من جسدي بمشرط، فهو أقل إيلاما لي من رؤية فلسطين وهي تقتطع من دولة الخلافة وهو ما لن يحدث.. ليحتفظ اليهود بملايينهم وعندما تتمزق الخلافة يوماً ما سيكون باستطاعتهم الحصول على فلسطين بدون مقابل".

بعد أن اصطدمت جهودهم في إقناع عبد الحميد الثاني بالسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين برفض قاطع من السلطان، توصل الصهاينة إلى قناعة بأن "تغيير النظام" في اسطنبول هو وحده الكفيل بتحقيق حلمهم في فلسطين. وهكذا بدأ التخطيط للإطاحة بالسلطان، وكان أول اجتماع عقد في هذا الصدد مباشرة بتاريخ 4 فبراير 1902 في منزل المدعو جيرماين انطوان ليفيفر-بونتاليس في باريس.. كانت المعارضة تنشط بالتنسيق مع الحكومة الفرنسية بعيداً عن الأعين. أما المؤتمر الثاني للمعارضة فعقد في باريس عام 1907 وبهدف توحيد الأحزاب كافة بما فيها حزب:" لجنة الاتحاد والترقي"، تمهيداً لإشعال الثورة " .

بعد مؤتمر المعارضة الثاني في باريس أنذرت قيادة حزب لجنة الاتحاد والترقي، السلطان بتاريخ 13 مايو 1908 بضرورة استعادة العمل بالدستور، علماً بأن هؤلاء أنفسهم بادروا لتعليق العمل به وفرضوا الحكم الدكتاتوري لدى تسلمهم مقاليد الأمور في البلاد لاحقا. وفي 12 يونيو بدأ الجيش الثالث المتمركز في ماسيدونيا زحفه على القصر واستعيد العمل بالدستور بتاريخ 24 يوليو 1908.

انفجرت ثورة مضادة تلقائية ضد حزب الاتحاد والترقي عام 1909 انضم خلالها الجنود وصغار الضباط لصفوف جماهير المسلمين الغاضبة من جمعية محمد. نشبت على إثرها مواجهات مسلحة استخدم خلالها ضباط الحركة الانقلابية المدفعية الثقيلة ضد المعارضين. ومع أنه لم يكن للسلطان أي يد في العملية العسكرية التصحيحية إلا أن الانقلابيين وجدوها فرصة لتحميله المسؤولية والتحرك للإطاحة به واستبداله بشقيقه الذي سيخدم كرمز. أبقى الانقلابيون على حياة السلطان، وتم نقله إلى سالونيكا .. حيث أودع في فيلا إيمانويل كاراسو، وكان أحد اليهود مع وفد هرتزل لمقابلة السلطان.

في كتابه المعنون" سلام ينهي كل سلام"، تحدث ديفيد فرومكين أستاذ التاريخ في جامعة بوسطن، عن جذور حزب الاتحاد والترقي الذي نشط مع الأحزاب الصغيرة المتحالفة تحت اسم: حركة الشبيبة الأتراك. ومما قاله فرومكين بهذا الشأن:" كانوا ( حزب الاتحاد والتقدم) يحظون بتعاطف وزارة الخارجية في لندن، ومع ذلك فقد كان للقنصلية البريطانية في القسطنطينية رأي مختلف، حيث كان السفير سير جيرارد لاوثر ينظر لقادة المعارضة بكثير من الازدراء. ويبدو أن السفير كان إلى حد كبير تحت نفوذ وتأثير مستشاره الرسمي لشؤون الشرق جيرالد فيتزموريس .. جاء تفسير الأخير لأحداث 1908 مقروناً بحقيقة هامة وهي أنها حدثت في سالونيكا، البلدة التي كان نصف سكانها إما من اليهود أو من طائفة "الدونمه" ( أتباع مذهب يهودي تحولوا إلى الإسلام في القرن السابع عشر). كما عرفت سالونيك أيضا بأنها مركز نشط لمهاجع الماسونية . وكان إيمانويل كاراسو، المحامي اليهودي، قد أسس مهجعاً ماسونياً تحول إلى

مركز للاجتماعات السرية لجمعية طلعت، عندما كان هذا الأخير مطارداً من قبل شرطة السلطان. توصل فيتزموريس لقناعة مؤداها أن حزب الاتحاد والترقي هو نتاج لمؤامرة لعب الماسونيون الدور الأكبر في حياكة خيوطها، وقد نقل السفير لوثر هذا الرأي لوزارة الخارجية في لندن. وقد أشار السفير في تقريره المذكور إلى حزب الاتحاد والترقي مستخدماً تعبير:" اللجنة اليهودية للاتحاد والترقي...". ومن جانبه أجرى مستشاره فيتزموريس المزيد من التحري حول المعارضة التركية وتحديداً ما يتعلق بحزب الاتحاد والترقي، ولخص ما توصل إليه من نتائج في تقرير سري رفعه باسمه إلى سير شارلز هاردنغ بوزارة الخارجية بتاريخ 29 مايو 1910. أشار فيتزموريس في تقريره إلى أن الشعارات التي رفعها حزب الاتحاد والترقي، والتي تتلخص في: الحرية، المساواة والأخوة، والكلمات الثلاث مستمدة من الثورة الفرنسية تشكل في الوقت ذاته شعارات الماسونية الإيطالية، وأصبحت الآن،الشعار الذي ترفعه حركة تركيا الفتاة. ومما قاله فيتزموريس في تقريره إن الأحزاب التركية الجديدة تقلد في طروحاتها السياسية والاجتماعية الثورة الفرنسية وتنتهج الوسائل الدنيوية البعيدة ذاتها تماماً عن الدين... وفي تقريره المطول الذي تكون من أكثر من 5000 كلمة ادعى لاوثر بأن اليهود هيمنوا على شبكة ماسونية ومن خلالها على الإمبراطورية العثمانية.. ومما قاله السفير البريطاني بأن من أبرز المشاركين في المؤامرة الماسونية اليهودية على تركيا السفير الأمريكي في تركيا أوسكار شتراوس ( يهودي أيضاً) الذي يملك أشقاؤه في نيويورك سلسلة متاجر مايسيز الشهيرة" والذي تبرع أخوه ناثان بثمن الأرض التي بنيت عليها مستعمرة نتانيا لاحقاً في فلسطين .

في ذلك الوقت كان المبشرون قد نجحوا في إقامة أكثر من مئة كنيسة في أنحاء سوريا الكبرى ويديرون أكثر من200 مؤسسة تبشيرية، ومع ذلك فإن النتائج ظلت مخيبة للآمال بدرجة كبيرة.. فالمبشرون كانوا غير قادرين على إنقاذ الأرواح البشرية ولا إقناع احد بالتحول للدين المسيحي من المسلمين أو اعتناق المذهب البروتستننتي من المسيحيين الشرقيين. بل إن المبشرين وجدوا أنفسهم أمام حالات معاكسة، كما حصل مع القنصل الأمريكي لدى الفلبين ألكسندر راسل، الذي تحول للإسلام عام 1888 بعد أن كان عضواً ملتزماً في الكنيسة المشيخية. عاد راسل إلى مسقط رأسه نيويورك ليبني أول مسجد على الأرض الأمريكية ويصدر أول جريدة إسلامية في تاريخ البلاد.

عن استخدام البريطانيين لعامل القومية والفرنسيين لعامل الدين في حملتهم الخاصة بتفكيك الإمبراطورية العثمانية ، كتب ديفيد فرومنكن في كتابه : "سلام ينهي كل سلام"، يقول: "كانت القوى الأوروبية في ذلك الوقت تعتقد بأنها قادرة على تغيير آسيا الإسلامية في عمق وجودها السياسي. كانت النتيجة أنهم، وبمحاولتهم فعل ذلك، أدخلوا نظام دولة مصطنعاً إلى الشرق الأوسط، الذي تحول بذلك إلى مجموعة من الكيانات التي لا تزال عاجزة وحتى يومنا هذا عن أن تصبح دولاً ذات هوية مميزة ومستقلة… طرح البريطانيون القومية أو العائلة الملكية بديلين للدين… ومع أن الحكومة الفرنسية سمحت ببقاء الدين أساساً للسياسة في الشرق الأوسط، إلا أنها عمدت إلى مناصرة مذهب ضد الآخر، الأمر الذي لا يزال ملموساً حتى يومنا هذا، خصوصاً في بلد مكتوٍ بصراع الطوائف مثل لبنان الذي عانى من حرب طائفية دموية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي".

ولعل سوألاً يطرح نفسه (والذي سأكرره في نهاية كل مقالة من هذه السلسلة ): أيهما أفضل، مشروع السلطان عبد الحميد الذي يبقي على وحده عربية وإسلامية والعمل على تطويرها وإصلاحها أم الكيانات التي يحكمها شيوخ قبائل أو كيانات تعاني من الصراعات العرقية والاثنية والمذهبية التي لم ترتقي بعد 100 عام لكي لا تصبح أكثر من دولة فاشلة؟

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل