بمناسبة مرور 67 سنة على النكبة: هكذا ضاعت فلسطين وهي بإنتظار صلاح الدين
د. عبد الحي زلوم
عشية تصويت الأمم المتحدة على قرار التقسيم، رفعت استخبارات الهاغاناه، وهي ميليشيا اليهود في فلسطين للوكالة اليهودية تقريرها التقييمي عن الميزان العسكري، جاء فيه القول بأنه في حالة اختار العرب الحرب فإن الدول العربية أبعد ما تكون عن التوحد، وعرب فلسطين أبعد ما يكونون عن الاستعداد للحرب.. فقد كانوا يفتقرون تماماً للموارد المالية اللازمة، ولا تتوفر فيهم القدرات القيادية والتنظيمية مقابل مصادر مالية مفتوحة تحت إمرة يهود فلسطين. بالمقارنة فقد كان الصهاينة في فلسطين يملكون القدرة على الوصول إلى جيوب أثرياء اليهود في جميع أنحاء العالم وفي مقدمتهم: يهود الولايات المتحدة..
كانت الدول العربية الخارجة تواً من الانتداب البريطاني والفرنسي ضعيفة عسكرياً واقتصادياً وحتى معنوياً، ناهيك عن التمزق والتناحر السائد في العلاقات فيما بينها. وبالمقابل أقامت الوكالة اليهودية صناعات عسكرية سرية في المستوطنات المنتشرة في مواقع عدة. وبينما كان حكم بالإعدام بانتظار أي عربي قد يملك مسدساً، كانت صناعة السلاح تحت إدارة الهاغاناه قد أنتجت خلال الفترة مابين 1 أكتوبر 1947 و31 مايو 1948 ما مجموعه: 15468 بندقية رشاشة نوع ستين، و200 ألف قنبلة يدوية، 125 مدفع مورتر عيار 1 إنش مع 130 ألف قذيفة، وحوالي 40 مليون رصاصة لاستخدام الرشاش ستين. كانت الهاغاناه جيشا نظاميا بمعنى الكلمة: له رئاسة أركان وأفرع متخصصة بما فيها الاستخبارات، والقوة البشرية، واللوازم والوحدات الطبية بل وحتى سلاح الجو الذي حمل في البداية اسم: الخدمات الجوية. في المقابل كان الفلسطينيون يفتقرون لكل شيء: القيادة والموارد والتنظيم والسلاح. الواقع أن هذا الحال كان ينطبق في معظمه على الجيوش العربية المشكّلة حديثاً. لم تجد الهاغاناه صعوبة في التحول السريع من قوة شبيهة بالميليشيا إلى جيش نظامي، وبحلول مايو 1948 كانت الهاغاناه قد نشرت 12 فرقة منها ثلاث مشاة واثنتان مدرعة. في غضون ذلك كانت الصورة على الجانب العربي تدعو إلى الرثاء.
من جانبهم كان البريطانيون والفرنسيون الذين أسسوا الجيوش العربية من البداية، يدركون جيداً بأن هذه الجيوش لم تبن على أساس خوض الحروب، وبأنها مهيأة للقيام بمهمة أخرى وهي حفظ الأمن الداخلي وحماية الأنظمة غير الشعبية التي نصبتها سلطات الانتداب قبل رحيلها عن المنطقة، وحتى هذه اللحظة ما تزال حماية الأنظمة تشكل المهمة الرئيسية لهذه الجيوش والتي لم تربح في تاريخها حرباً واحدة. يلخص جمال عبد الناصر، الذي شارك في القتال في فلسطين، استعدادات ونوايا الجيش المصري، لاحقاً بالقول:” لم يكن هناك حشد فعلي للقوات ولا تكديس للذخيرة أو المعدات العسكرية.. لم يكن هناك استطلاعات أو نشاط استخباراتي ولا حتى خطط عسكرية ..( كان يراد منها أن تكون حرباً سياسية ليس إلا ).. كان المطلوب تحقيق تقدم بدون انتصار وتراجع بدون هزيمة”.
حتى قبل أيام فقط من الانسحاب النهائي للقوات البريطانية من فلسطين، كانت أبرز معالم الوضع العسكري هناك كما يلي:
· قبل يومين فقط من الموعد المحدد لدخول الجيوش العربية فلسطين، تم إعفاء القائد العام للقوات العربية النظامية منها وغير النظامية، وتعيين اللواء نور الدين محمود.
· في اللحظة الأخيرة، وبتاريخ 14 مايو 1948 قرر الرئيس اللبناني بشارة الخوري ورئيس أركان الجيش فؤاد شهاب البقاء بعيداً عن الحرب . وقتها كان لبنان المستقل حديثاً يملك جيشاً متواضعاً يضم 3500 عنصر فقط.
· لم تحقق سوريا الاستقلال سوى عام 1946 ، أي في وقت متأخر لإعداد جيش قادر على المشاركة الفاعلة في حرب فلسطين بعدها بعامين . أن الافتقار للأسلحة والذخيرة جعل الجيش السوري الحديث يقتصر على فرقة واحدة بقيادة العقيد عبد الوهاب حكيم. وحتى هذه الفرقة لم تكن مهيأة لخوض أي حرب.
· قرر الجيش العربي )الاردني( الذي كان يعتبر وقتها أفضل جيوش العالم العربي، ولاعتبارات عدة، تغيير هدفه من الحرب ليصبح الاستيلاء- إنقاذ الجزء المخصص للعرب من فلسطين، طبقاً لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. كان الملك عبد الله واعياً للقوة اليهودية في فلسطين وفي الساحة الدولية . ولم يكن يخفى عليه مدى محدودية جيشه الصغير، وتوفير الذخيرة ومصدرها البريطانيون . يضاف لذلك حقيقة أن قائد الجيش، غلووب باشا وكذلك كبار ضباطه كانوا جميعاً من البريطانيين . وبالتالي فقد قرر حصر هدفه بإنقاذ والحفاظ على الجزء المخصص للعرب الفلسطينيين في قرار التقسيم. غير أن القرار المذكور ارتبط وإلى حد كبير بالاتفاق الذي توصل إليه مع غولدا ميرسون بعد مفاوضات سرية جرت بينهما بتاريخ 17 نوفمبر 1947 انتهت بموافقة الملك على التقسيم مقابل عدم اعتراض الدولة اليهودية على ضم الملك للجزء العربي من فلسطين، كما ورد في خريطة قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود.
· حجم القوات العربية مجتمعة عند بدأ الحرب في 15 مايو 1948 لم يكن يتجاوز 20 ألف جندي يتوزعون على: 5500 مصري، و4500-6500 جندي في الجيش العربي، و2750 سورياً، و2700 عراقي، بالإضافة إلى ألف متطوع من الإخوان المسلمين ، و3000 متطوع من جيش التحرير العربي . كانت القوات العربية تفتقر إلى سائر مقومات الدخول في حرب: القيادة الموحدة والذخيرة والمعدات المناسبة، بل إن معظم ما كان لديها من معدات لم تكن تعمل.
· استطاعت الدولة اليهودية الجديدة وضع ما لا يقل عن 13% من سكانها تحت السلاح. ففي يوليو 1947 كان اليهود قد حشدوا 65 ألف جندي، وارتفع الرقم إلى 88 ألف في أكتوبر ليصل إلى 108آلاف جندي في يناير 1948. ومع الإعلان عن تحول الهاغاناه إلى جيش نظامي، أصبح الجيش الذي يحمل اسم: قوات الدفاع الإسرائيلية، يملك 120 ألف جندي نظامي.
ربما كان الجيش العربي القوة الوحيدة التي أثارت القلق لدى القيادة اليهودية التي اعتبرتها على قدر عال من الكفاءة والمهنية. عدا عن قيادته البريطانية كان افراده وضباطه الاردنيون العرب على قدر كبير من الوطنية والحماس . يقتبس المؤرخ اليهودي بني موريس الضابط الشاب في الجيش العربي معن أبو نوار، المعنويات العالية التي كان يتمتع بها منتسبو القوة الأردنية، بسبب الشعبية الكبيرة التي كانت تحظى بها في الشارع الأردني، خاصة وهي تزحف على فلسطين بالقول:” كانت المشاعر ملتهبة….. أتذكر أن والدي ووالدتي كانا بين الجموع التي احتشدت في وداعنا في عمان . فمع مروري في العربة العسكرية سمعت أمي وهي تصيح بأعلى صوتها: الله معكم يا ولدي.. لا تعودوا .. الشهادة يا ولدي.”
كان الجيش بقيادة 50-70 ضابطاً معظم الكبار منهم بريطانيون، وعلى رأسهم القائد غلوب باشا ونائبه نورمان لاش، وكانت القوة مدرعة في معظمها وتدعمها وحدات خدمة فعالة . غير أنه كان من بينهم بعض الأردنيين ممن قاموا بواجبهم بشجاعة ومهنية عالية وشاركت المدفعية في المواجهة بقوة وفعالية . وبالرغم من الظروف الصعبة فإن الهزائم الأولية التي أحاقت بالقوات اليهودية جاءت في معظمها على يد الجيش العربي، وخاصة في القدس واللطرون وباب الواد وكفار عصيون . إلا أنه سرعان ما أصبح الجيش يعاني من نقص الذخيرة، وبخاصة قذائف المدفعية والمورتر بسبب الحظر البريطاني بوجه خاص . وفي 30 مايو وجدت الكتيبة الرابعة التي كانت تقاتل في اللطرون نفسها بدون ذخيرة بعد أن نفذت قذائف مدفعيتها . كانت قذائف المدفعية تاتي بالقطارة من معسكرات الانجليز في السويس.
كتاب مذكرات جندي” لكاتبه العميد صالح الشرع ( رقم الايداع لدى مديرية المكتبات والوثائق الوطنية الاردنية ” ١٠٣/٧/١٩٨٥)” وهو من الكتب التاريخية الهامة التي توثق أحداث حرب فلسطين من شاهد عيان . بعض ما جاء في ذلك الكتاب معلومات هامة عن بطولات وانتصارات افراد الجيش العربي رغم انف الضباط الانجليز . تقدم الملازم غازي حربي في 25/5/1948 مع كتبيته الثالثة في القدس حتى وصل الى بناية باركليز . طلب القائد الانجليزي غولدي الرجوع فرفض فأعلمه بأنه سيقصف في المدفعية إن لم يرجع . امتثل الى الامر وقتل في عملية الانسحاب 19 شهيداً بالاضافة الى الجرحى . أما نائب السرية فياض دحيلان من عشيرة الحويطات فقد ترك الجيش مع 8 من الجنود وانضموا الى المجاهدين . اكبر هزيمة مُني بها اليهود كانت معركة باب الواد بقيادة المقدم حابس المجالي ومعركة احتلال حارة اليهود في القدس بقيادة المقدم عبد الله التل . في 26/5/1948 قام المقدم محمد المعايطة بقذف كافة الاحياء اليهودية في القدس بمدفعيته وما كان من القيادة الانجليزية سوى أن احتجزته وذهبت به الى عمان مخفوراً وتم استبداله بالانجليزي بولاك والذي قام بإطلاق 108 قذيقة من مدافعه على ملعب كرة قدم في حي البقعة في القدس . والادهى بالامر أنه واثناء المعركة طلبت بريطاينا من شرق الاردن سحب كافة الضباط الانجليز من ارض المعركة الى شرق الاردن بحجة ان اتفاقية الدفاع المشترك لا تشمل فلسطين . وتمّ تعيين مدير الادارة واللوزام قائداً للواء وصار المدير المالي مدير عمليات واستلم ضباط الادارة والصيانة والمشاغل كضباط اركان .
المقدم عبد الكريم قاسم من الجيش العراقي(رئيس جمهورية العراق لاحقاً) احتل موقع راس العين من اليهود ومزرعة مجاورة ورفض الانسحاب منهما بالرغم من طلب قائد قواته الزعيم نجيب الربيعي قائلاً :” انا لا انسحب الا الى بغداد” وفعلاً هذا ما حصل . تم تسليم 17 عشر بلدة وقرية مع ارضيها البالغة 282 الف دونم في المثلث الخصيب دونما حرب نتيجة اتفاقية رودس. قرر الجيش العراقي الانسحاب وتسليم الجيش الاردني مكانه . كان قائد الكتيبة العراقية المقدم عبد الكريم قاسم في بلدة كفر قاسم. سأل قاسم الضابط الاردني إن كانت هذه البلدة داخلة في الحيز اليهودي بموجب اتفاقية رودس. فأجابه بالايجاب . عندها طلب عبد الكريم قاسم من جنوده فتح قبور واخراج جثث 22 شهيداً سقطوا اثناء حرب رأس العين وفي حوادث متفرقة وقال :” أنا اسلمكم المواقع ولكنني لا اترك جنودي الاموات لتدنس مقابرهم اقدام اليهود . “كان امام قيادة كتيبة قاسم تمثال اقامته الكتيبة يسمونه تمثال النصر أمر بهدمه وتمّ ذلك ايضاً.
واخيراً :
في إحدى الدول العربية الكبرى تم موخراً شطب تدريس سيرة وبطولات صلاح الدين من مناهجها الدراسية!!
عن كتاب “أمريكا إسرائيل الكبرى” للدكتور عبد الحي زلوم
مستشار ومؤلف وباحث