امريكا تدفع الجزية للدولة الاسلامية! حقائق يتمنون أن لا نذكرها او نتذكرها
د. عبد الحي زلوم
كانت الدولة العثمانية المسلمة عام 1776 عبارة عن فيدرالية كبيرة، لعدد كبير من "الولايات" التي تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي وتنتشر وتضم معظم أوروبا الشرقية حالياً بما في ذلك: صربيا، اليونان، بلغاريا،أجزاء من رومانيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى دول المشرق العربي والمغرب العربي وهذا يعني بأن 80% من سواحل البحر الأبيض المتوسط كانت خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية الاسلامية ، لدرجة أن الدول الإسلامية الإقليمية وبخاصة دول شمال إفريقيا، كانت تتعامل مع البحر المتوسط باعتباره بحيرة إسلامية، وتفرض جزية على الإبحار فيه، وهي ممارسة كان معترفاً بها كواقع عام في 1776 وهو عام استقلال الولايات المتحدة لدرجة أن بريطانيا ومعظم دول شمال أوروبا كانت تدفع الجزية لدول شمال إفريقيا ( ليبيا وتونس والجزائر والمغرب حالياً(. لم يكن نظام الجزية يستثني أحداً بما فيها السفن الأمريكية التي كانت تدخل المتوسط. قبل عام 1776 عندما كانت المستعمرات الأمريكية جزءاً من بريطانيا، كانت الجزية تدفع من قبل الأخيرة وتغير الأمر بعد الانفصال والاستقلال عن بريطانيا، حيث توجب على السفن الأمريكية دفع الجزية.
حاولت الولايات المتحدة الامتناع عن دفع الجزية في البداية. ولأن الأمريكيين لم يكونوا قد امتلكوا قوة بحرية رسمية ، حيث لم يكن الكونغرس قد وافق على ذلك بعد، فقد انبرى المواطنون الأمريكيون وبخاصة التجار منهم لهذه المهمة، وقاموا بتجميع أسطول خاص (خلال الفترة من 1776-1783 ) وتشكيل قوة بحرية غير رسمية لمواجهة البحرية الجزائرية وحماية مصالحهم التجارية في المتوسط. غير أن الأسطول الأمريكي لم ينجح في تحقيق أي من أهدافه، إذ سرعان ما خسر معركته في المتوسط ومعها سائر سفنه التي تعرضت للغرق في المواجهة مع البحرية الجزائرية . في ذلك الوقت طلب الكونجرس من
الحكومة الدخول . في مفاوضات مع "دول شمال افريقيا" حول مسألة دفع الجزية.
وقع الاختيار على جون آدامز، السفير الأمريكي لدى لندن والرئيس لاحقاً، للشروع في مفاوضات دبلوماسية مع دول شمال افريقيا. وفي هذا الصدد اجتمع آدامز عام 1785 مع عبد الرحمن العجار الممثل السياسي لباشا طرابلس ، الذي شرح له جوانب السياسة التي تنتهجها دول شمال إفريقيا حيال السفن التي تدخل المتوسط أو البحر الإسلامي طبقاً لتعبير العجار وقتها. وختم العجار مناقشته مع المبعوث الأمريكي بالتأكيد على أنه ينبغي على الولايات المتحدة دفع جزية قدرها مليون دولار سنوياً، وهو مبلغ ضخم في مقاييس ذلك الوقت خاصة إذا ما علمنا بأن ميزانية الولايات المتحدة لم تكن تتجاوز الملايين العشرة. وفي وقت لاحق انضم وليام جيفرسون، الذي أصبح رئيساً بدوره، إلى المفاوضات وعقد محادثات مع المبعوث التونسي، غير أن حظه لم يكن بأفضل من زميله آدمز. انتهت المفاوضات وعاد آدمز إلى مقر عمله في لندن ليرفع توصية إلى واشنطن بضرورة دفع الجزية المطلوبة على ضخامتها
في عام 1790 أصبح ثوماس جيفرسون وزيراً للخارجية، وسرعان ما تقدم للكونغرس بتوصية للدخول في حرب مع الجزائريين متشجعاً بوجود الأسطول. غير أن الكونغرس رد طلب جيفرسون، وبدلاً عن ذلك وافق على دفع جزية وصلت إلى 140 ألف دولار. وفي 27 مارس 1794 عزز جورج واشنطن الأسطول بإضافة ست فرقاطات.
كانت "جورج واشنطن" أولى سفن الأسطول الأمريكي التي تمخر في مياه البحر الأبيض المتوسط وكان ذلك في العام 1800 . والمثير هنا أنها لم تكن في مهمة عسكرية بل كانت تحمل جزية للجزائريين قدرها نصف مليون دولار. مع أن الجزائر كانت تتمتع وقتها بقدر واسع من الحكم الذاتي إلا أنها كانت لا تزال جزءاً من الدولة العثمانية المسلمة، وبالتالي تسهم في تمويل ميزانية اسطنبول. في ميناء الجزائر كانت السفينة الحربية " الهلال" ترسو كما لو كانت في استقبال الأمريكيين لتذكيرهم بواقع أليم. فقد كانت السفينة المذكورة المزودة بـ: 36 مدفعاً جزءاً من جزية سابقة دفعتها الولايات المتحدة للجزائريين. بعد تسليم الجزية الجديدة أبلغ "باي" الجزائر قبطان السفينة جورج واشنطن بأن رحلته لم تنته بعد وبأن عليه التوجه إلى اسطنبول حاملاً للخليفة السلطان العثماني هدايا وأموالاً. وخشية التعرض للمصادرة في حالة الرفض، وافق
القبطان الأمريكي مجبراً فكان أن أبحر في اليوم التالي بسفينته المحملة بالأغنام والزرافات والببغاوات وبأكثر من مليون دولار من الذهب والمجوهرات والبضائع. ولعل مما ضاعف من ألم ومعاناة القبطان طوال الرحلة إلى اسطنبول مشاهدة مرافقيه الجزائريين وهم يؤدون الصلوات الخمس بأنتظام باتجاه مكة التي كان عليه ضبط مسار السفينة باتجاهها في كل مرة.
بعد وصوله للرئاسة صمم جيفرسون على مواجهة الخصوم في شمال إفريقيا خاصة وأنه أصبح يملك أسطولا قوياً.. وفي تطور لاحق تسبب به جيفرسون التواق لإذلال باشا طرابلس يوسف قرمنلي فيما يتعلق بقضية الجزية، تملك قرمنلي الغضب فأرسل جنوده بتاريخ 14 مايو 1801 إلى القنصلية الأمريكية في تونس، وقاموا بقطع سارية العلم الأمريكي فيما اعتبر هذا التصرف من أعمال الحرب. وبذلك يكون جيفرسون قد حصل على ما كان يسعى إليه: الحرب. أرسلت الولايات المتحدة وحدة بحرية مكونة من أربع سفن كبيرة هي: إيسيكس، بريزدنت، فيلادلفيا، وإنتربرايز بهدف فرض حصار على ميناء طرابلس وقصف المدينة وصولاً إلى إجبار قرمنلي على الاستسلام. كانت الأوامر الصادرة لقائد الوحدة البحرية المهاجمة تنص على: بذل أقصى جهد ممكن لشل حركة سفن العدو بإبقائها داخل الميناء .. وإفشال أي محاولة للهروب والاستيلاء على السفن كغنائم".
بدأت المهمة عملياتها بخدعة برفع السفينة إنتربرايز العلم البريطاني، الأمر الذي مكنها من الاقتراب من السفينة طرابلس لمسافة قريبة جداً قبل أن ترفع العلم الأمريكي وتقوم بمهاجمة السفينة العربية وتوقع 30 إصابة بين بحارتها الـ:80. وفوق ذلك تم أسر قبطانها الريس محمد سوسة، وجلده أمام أنظار الجميع. بعدها أرسلت القوة البحرية الأمريكية وحدة إنزال على الشاطئ وقامت بحرق 11 فلوكة محملة بالحبوب. ما إن استفاقت بحرية قرمنلي من صدمة الهجوم الأمريكي المفاجئ، حتى تحركت القوارب في محاولة ناجحة لاختراق الحصار، ونجحت بدورها في فرض حصار على السفن الأمريكية. أما قوة المارينز التي نفذت الإنزال على الشاطئ فقتلت جميعها لتسجل بذلك أولى ضحايا تتكبدها المارينز في الشرق الأوسط. انتهت الحملة الأمريكية المذكورة بمشهد قائد القوة البحرية وهو يرفع العلم الأبيض مستسلماً لحاكم طرابلس.
في أغسطس 1803 قادت السفينة الحربية يو.إس.إس فيلادلفيا قوة بحرية أميركية جديدة باتجاه الشرق الأوسط. وما إن دخلت مياه المتوسط حتى التقت بالسفينة التجارية المغربية "
المركوبة" فهاجمتها واحتجزت ركابها. وفي الطريق إلى طرابلس هاجمت القوة الأمريكية عدداٌ من القوارب قبالة سواحل طرابلس، فما كان من هذه القوارب إلا أن انسحبت أمامها في حركة تكتيكية على ما يبدو مقتربة من الشواطئ ما أمكن. ومع ذلك لاحقتها السفينة فيلادلفيا وكان ذلك عصر يوم 31 أكتوبر1803، فقد أطبقت تسع قوارب طرابلسية على السفينة واعتقلت القبطان و307 من المارينز وجردتهم جميعاً من ملابسهم واقتادتهم أسرى إلى الشاطئ، ثم قامت القوارب بسحب السفينة إلى الشاطئ حيث قرر الوالي يوسف قرمنلي إعادة تسميتها بـ: "هبة الله" . غير أن الأمريكيين عادوا على متن السفينة إنتربيد. وفي ليلة 16 فبراير 1804 قامت وحدة من المارينز متنكرين في زي بحارة مالطيين بالتسلل إلى موقع السفينة الأسيرة وقاموا بإحراقها
عرضت واشنطن على قرمنلي فدية تصل إلى 100 ألف دولار لإطلاق سراح القبطان ورجاله الأسرى فرفض، مطالباً بمليون ونصف دولار، الأمر الذي دفع الأمريكيين لعمل عسكري جديد ضد طرابلس. وفي جنح الظلام قامت السفينة انتربيد بأنزال وحدة من المارينز بقيادة جوزيف إسرائيل على شواطئ طرابلس، في وقت كانت السفينة نفسها تحمل 15 ألف رطل من المتفجرات. كانت الأوامر تقضي بتدمير أسطول قرمنلي في عتمة الليل. وقبل أن تستطيع وحدة المارينز الإتيان بأي شيء تعرضت للنيران من قبل القوارب الطرابلسية التي كشفت أمرها ، وكانت النتيجة مصرع جميع أفراد المارينز وتفجير السفينة انتربيد بما تحمل من أطنان المتفجرات التي أضاءت السماء وأصمّت انفجاراتها الآذان على مدى ساعات الليل. وعندما طلب قائد الوحدة الأمريكية من والي طرابلس السماح بدفن جثث جنوده القتلى أصرّ قرمنلي على ترك الجثث للكلاب.
مستشار وخبير من الاردن
عن كتاب امريكا اسرائيل الكبرى (الصادر بالعربية والانجليزية) لمؤلفه الدكتور عبد الحي زلوم