الحلقة الثالثة: البعد الاقتصادي لحرب اكتوبر، النفط بدل الذهب غطاء للدولار ومصائد الديون للدول النامية وعولمة الفقر
د. عبد الحي زلوم
كانت زيادة أسعار النفط إلى 400% لتحقيق الأهداف التالية:
· يجعل من نفط بحر الشمال ذا قيمة اقتصادية ، وتتحول بريطانيا معه إلى دولة منتجة للنفط بكل ما يعنيه ذلك من تحسين ميزان مدفوعاتها الذي كان في وضع حرج.
· توفير مخزون نفطي طبيعي لقوات الناتو ، التي لن تعتمد بعدها على إمدادات نفطية بعيدة المصادر ومعرضة للمخاطر.
· يجعل من نفط ألاسكا ، عالي كلفة الإنتاج ، ذا جدوى اقتصادية ، مما يخفف من واردات النفط الأمريكية ، بما يحمله من انعكاسات ايجابية على العجز التجاري الأمريكي، والذي بدأ من بداية السبعينات نتيجة استيراد النفط.
· يعطي الولايات المتحدة ميزة تنافسية جديدة باعتبار أن منافسيها الصناعيين الرئيسيين ، اليابان وألمانيا ، أكثر اعتماداً على الواردات النفطية .
· سيجعل الدولار عملة تسعير النفط ، مما يخلق طلباً اجبارياً على شراء الدولار من الدول المستوردة للبترول ، ومما يسهل طباعة المزيد من الدولارات الورقية بدون غطاء من الذهب .
· ومع إصدار الولايات المتحدة المزيد من الأوراق النقدية ، ستجد هذه الدولارات النفطية طريقها عائدة إلى الخزينة الأمريكية بشكل سندات خزينة أو شراء اسلحة مما اصبحت خارج الخدمة.
· سداداً للعجز التجاري الأمريكي.
قامت الولايات المتحدة سنة 1971 بالغاء التزامها حسب اتفاقية بريتون وودز ( سنة 1944) بأن تطبع الولايات المتحدة من الدولارات حسب كمية الذهب المتوفرة لديها وبإحتساب 35دولار للاونصة وهو التعهد التي قطعته على نفسها في تلك الاتفاقية لقاء سعر صرف ثابت للدولار مع باقي العملات العالمية مما جعل نظاماً مالياً مستقراً لا يسمح للولايات المتحدة بطبع ما تراه هي مناسباً من عملة الدولار والتي اصبحت عملة الاحتياط العالمي .
بعد تنصل الولايات المتحدة من الالتزامات المترتبة عليها بمبادلة اي كمية من الدولارات مقابل الذهب ستصبح عملتها للدولار ورقاً سيفقد قيمته لانه اصبح دونما غطاء لذلك جاءت حرب اكتوبر 1973 والتي نتج عنها زيادة الاسعار 400% . وعندما تمّ اجبار العالم كله بشراء النفط لعملة الدولار فقط مما يخلق طلباً اجبارياً على شراء الدولار من الدول المستوردة للبترول ، ومما يسهل طباعة المزيد من الدولارات الورقية بدون غطاء من الذهب .
إذا كان الدولار قد خسر دعم الذهب فقد وجد البديل الأفضل: الذهب الأسود، وفوق ذلك فإن فرض الدولار كعملة تسعير إجباري لشراء النفط ، خلق طلبًا لا ينقطع على العملة الأمريكية ، وهو وضع لم يتغير كثيرًا عبر السنوات الطويلة التالية. ففي عام 2013 كانت أسعار النفط تتراوح حول 100 دولاراً للبرميل. وإذا كان معدل الاستهلاك العالمي من النفط يصل إلى 90 مليون برميل يوميًا ، فإن الخزينة الأمريكية تطبع حوالي 9 مليارات ورقة دولار يوميًا (9000000000$) بكلفة 5 سنتات لورقة 100 دولار ، مغطاة في
الأساس من النفط... لا عجب إذًا ، والحالة كذلك ، أن تسعى الولايات المتحدة حاليًا لإبقاء المصادر النفطية تحت سيطرتها العسكرية المباشرة.
المفجع حقاً هو أن الدول المنتجة للنفط لم تستفيد حقيقة من زيادة اسعار النفط الا بالقدر اليسير في ميزانياتها التي اعتمدت اساساً على الاستهلاك والبنية التحتية والعسكرية وما عدا ذلك اي معظمه ذهب لخزائن الولايات المتحدة . عن ذلك و كما جاء في كتاب اليد الخفية للهيمنة الامريكية(The Hidden Hand of American Hegemony:) ديفيد ي سبيرو، دار جامعة كورنل للنشر:
"تدّعي النظرية الرأسمالية أن أسواق المال تتأقلم أوتوماتيكياً بشكل جيد . فهي تدّعي أن الكميات الهائلة من الاموال التي ذهبت الى البلدان المنتجة للنفط تم تحويلها الى اقتصادات دول العالم الثالث، وهذه العملية تمّ تسميتها اعادة تدوير البترودولارات . ولكن .... اكثر تلك البترودولارات لم تذهب الى الدول الفقيرة المستوردة للنفط ، ولكنها ذهبت الى خزائن الولايات المتحدة عبر اتفاقيات سرّية بين دول النفط الكبرى والولايات المتحدة لتشتري تلك الدول سراً سندات الخزانة الامريكية .... بهذه الترتيبات قامت دول أوبك بشراء الديون الامريكية والتي بدون هذا الدعم لم تكن الولايات المتحدة تستطيع الاستمرار في سياسة المديونية العامة الكبيرة ، وكذلك لا يستطيع مواطنيها الاستمرار بالعيش على الديون من اجل المحافظة على انماطهم الاستهلاكية." هذا بالصبط ما تمّ الاتفاق عليه في مؤتمر البيبلدربيرغ في مايو 1973 قبل 5 اشهر من حرب اكتوبر .
وطبقاً لدراسة أعدها البروفسور جورج . سي . لودج George C. Lodge ، وتشكل جزءاً من المنهج الذي يدرس لطلبة الماجستير في مساق شؤون النفط الدولي بكلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد ، فإن ضمان الإمدادات النفطية للغرب ليس وحده الذي يشكل أحد مطالب الأمن القومي فيما يتعلق بموضوع النفط ، بل هناك سعر النفط أيضاً. وقد خصصت الولايات المتحدة وظيفة المرجح (سونغ باور) للسعودية ترفع الانتاج لخفض السعر، وتخفضه لزيادة السعر. وبما أن السعر هو من مقومات الأمن القومي الأمريكي كما في دراسة هارفارد أعلاه فمن البديهي معرفة من هو صاحب الكلمة العليا والأخيرة في هذه العلاقة.
وجدت معظم الدول النامية نفسها في مواجهة الزيادة الكبيرة التي طرأت على أسعار واراداتها النفطية ، وبنسبة 400% ، وذلك في وقت لا تملك فيه المال لتسديد فاتورتها النفطية . وهكذا شهد العالم ظهور ما عرف بمصيدة الديون ، ومعها "الاقتصاد العالمي الجديد" ، يعتمد في الأساس على المضاربة والهيمنة على موارد الآخرين. والآن ، وبعد أن ارتبط النفط بالدولار ، فإن الولايات المتحدة تستطيع طباعة ما تشاء من الأوراق النقدية (بدون غطاء وبحيث لا تكلف ورقة المئة دولار أكثر من خمسة سنتات) ، وبإمكان البنوك إقراض الدول النامية بالدولارات هذه ، مع الكثير من الشروط بالطبع، وتكون النتيجة أن هذه الدول تعجز عن سداد ديونها في الوقت المحدد ، وعندها يتدخل صندوق النقد الدولي بشروطه المفروضة لإعادة جدولة الديون ، لتجد هذه الدول نفسها وقد فقدت استقلالية قرارها الاقتصادي والسياسي ، وأصبحت أسيرة هاجس تسديد الفوائد واستمرار دورة الديون إلى الأبد.
جاء في كتاب عولمة الفقر لاستاذ الاقتصاد في جامعة أتوا بكندا ميشال شدسفسكي :-
"كان مجموع الديون طويلة الأجل على الدول النامية عام 1970 حوالي 62 مليار دولار. وزادت سبع مرّات فوصلت إلى 480 مليار دولار سنة 1980 ثم زادت 32 مرّة لتصبح 2000 مليار دولار سنة 1996 ... ولأن الدول قد اصبحت تنوء من ثقل ديونها ، فلقد مكن ذلك البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي ، منظمة التجارة العالمية. من إجبار تلك الدول على إعادة تشكيل اقتصادها وقبول الشروط التي تتوافق مع
مصالح أصحاب المال العالمي .... وأصبح الاقتصاد العالمي موجهاً لعملية تحصيل الديون… لما ينتج عن ذلك من زيادة في البطالة ، وتباطئ في النشاط الاقتصادي ".
لهذا تعسكر قوات الامبراطورية الأمريكية فوق حقول النفط مدفوعة الأجر من أصحاب النفط ) مرة لحمايتها من صدام حسين، واخرى من إيران واخرى من شبح جديد (لتتأكد أن سيل البترودولارات مستمر إلى خزانتها لانه بدونه فهي إمبراطورية من الورق أوهى من خيوط العنكبوت . ماذا لو أحسنا إدارة هذه الثروة؟؟؟
في مسرحية حرب اكتوبر 1973 كان الشيطان حاضراً وكان اصحاب القضية والنفط غائبون .
الحلقة القادمة يوم الاحد : ماذا قال الملك فيصل لكسينجر قبل اغتياله ؟ احتلال منابع النفط.
مستشار ومؤلف وباحث