أموال النفط العربي المهدورة...هل تجاوزت الخطوط الحُمر للإمبراطورية ؟

د. عبد الحي زلوم

الى اين ستنتهي اسعار النفط سؤال يتردد كثيراً هذه الايام . وفي مقال سابق بينت أن هبوط اسعار النفط كانت قراراً امريكياً بإمتياز حيث أن اسعار البترول وكذلك كميات عرضه هما متغيران من صميم مقتضيات الامن القومي الامريكي كما تُدرسه جامعة هارفارد في كلية الدراسات العليا للادارة مسار " السيطرة على النفط العالمي" . دعنا نستعرض هنا من المستفيد ومن الخاسر في هذا القرار:

· لو افترضنا سعر 50 دولار للبرميل كما هو هذه الايام ، فهذا يعني هبوط عن معدله للسنوات السابقة 60 دولاراً / للبرميل . ولو افترضنا أن تصدير العربية السعودية هو 10 مليون برميل / اليوم – هذا يعني خسارة 600000000 دولار كل يوم أو 219 مليار دولار في السنة ، سيتم سحب هذا المبلغ من احتياطاتها السيادية - ولكن من المستفيد هنا .

· اصبحت الولايات المتحدة تتتج 9 مليون برميل / اليوم أي انها تستورد 10 مليون برميل / اليوم حيث ان استهلاكها هو حوالي 19 مليون البرميل / اليوم . وبتوفير 60 دولار/ البرميل توفر الولايات المتحدة 219 ملياراً اي تماماً ما خسرته السعودية من مدخرات الاجيال القادمة . بعبارة اخرى فخسارة السعودية تصب في اقتصاد الولايات المتحدة .

· منذ ازمة 2008 والولايات المتحدة تضخ تريليونات الدولار معظمها الى الشركات والبنوك ( التي هي اكبر من ان يسمح لها بالافلاس).

· بقيت دول الخليج والعراق تخسر مبلغاً مشابهاً ، اي مجموع الخسارة لدول الخليج هو 438 مليار دولار في السنة .

· سيستفيد من هذه المنحة المجانية المستهلكون الامريكيون مباشرة بخفض كلفة الطاقة وبذلك يتم تحفيز الاقتصاد الامريكي .

· خسارة العربية السعودية وحدها تكفي لبناء بيت لكل عائلة - سعودية لا تمتلك مسكناً وهم كثيرون . وكذلك بناء بنية تحتية لمدنها التي تغرق بعد كل شتاء ، وتكفي تلك الخسائر لتغطي أيضاً ديون كل دول ( الاعتدال) العربي بالكامل ويبقى منها ما يكفي ان يجعل السودان سلة غذاء للعالم العربي . ولكن: هل نحن اصحاب مثل هذه القرارات ؟

بالاضافة الى تحفيز الاقتصاد الامريكي والاوروبي الضعيف ، فإن خفض السعر يضر بإعداء امريكا مثل فنزويلا وايران وروسيا .

الامبراطوريات لا تحب ان تتجاوز قوة حتى ( الاصدقاء) المالية أو العسكرية أو الاقتصادية حدوداً معينه . وليست دول الخليج استثناءً لهذه القاعدة . فقد تم تبديد الثروات العربية لشراء اسلحة من الجيل الثاني أو الثالث منتهية الصلاحية لمبادلتها بأموال النفط وكذلك لجعلها وقوداً لحروب اهلية تدميرية للذات العربي وبالرغم من ذلك فقد بلغت الاحتياطيات رقم تجاوز الخطوط الحُمر فإن لم تستعمل هذه القوى المالية اليوم فقد يأتي من يستعملها غداً . فهل وصلت مدخرات دول النفط الى تلك الخطوط الحمراء ؟ أما عن تجاوز خطوط الحمراء للقوة العسكرية دعنا نعطي مثالاً لحدود القوة المسموح بها كما كانت مع محمد علي وصدام حسين .

نظرة سريعة على الممارسات القديمة للإمبراطوريات الغربية آنذاك وهذه الأيام قد تكون مصدر إثارة للاهتمام . ولعل في إجراء مقارنة بين مصر القرن التاسع عشر وعراق القرن العشرين والحادي والعشرين يظهر الكثير من أوجه التشابه المثير بين ممارسات ووسائل الإمبراطورية الأنجلو- ساكسونية في الأمس وما تفعله الإمبراطورية الأمريكية في الوقت الحاضر:

· يجمع بين صدام حسين ومحمد علي قاسم مشترك أعظم: كونهما رجلين قويين حرصا على تثبيت تعزيز دعائم الحكم والسلطة الفردية وبطريقة عنيفة أحياناً.

· وصل كلاهما للحكم من خلال اتفاق ضمني بين القوى الإمبريالية القائمة حينها ، بريطانيا في حالة محمد علي بهدف الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية بحالة ضعف، والولايات المتحدة في حالة صدام حسين بهدف محاربة الشيوعيين العراقيين الذين انضموا لحكومة عبد الكريم قاسم في البداية، ولمحاربة الثورة الإسلامية في إيران بعد ذلك.

· تبنى كلاهما النظام العلماني كمطلب رئيسي لا يزال الغرب يحاول فرضه على الدول العربية والإسلامية.

·حرص كلٌّ منهما على بناء جيش قوي وقاعدة صناعية لدعم قوته العسكرية، وفي كلتا الحالتين جاء ذلك بمباركة الإمبراطوريات القائمة وقتها.

· تم استخدام جيش محمد علي كأداة لشن الحروب بالنيابة عن الإمبراطوريات، وكذلك فعل صدام في خوض حروب بالإنابة، سواء عن إدراك منه أو غير ذلك وذلك بالنيابة عن الإمبراطورية ( الأمريكية)، مثل الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت على السياق نفسه من الدموية لأكثر من ثمان سنوات.

· شكل كلاهما قوة عسكرية تتجاوز وإلى حد كبير الحدود المقبولة بالنسبة للإمبراطوريات، وفي كلتا الحالتين طالبت الإمبراطوريات منهما تخفيض قدرات جيشيهما حجماً ونوعاً . وكانت نتيجة التمرد على هذه المطالب نهايتهما المحتومة.

· طبق كل من محمد علي وصدام سياسات اقتصادية غير مقبولة من لدن الإمبراطوريات.. حيث أقدم صدام على تأميم صناعة النفط الذي يشكل المنتج الرئيسي للبلاد، في حين أدخل محمد علي نظام السيطرة الرسمية على القطاع الزراعي، الذي يعتبر مصدر الحياة الرئيسي للمصريين، من خلال فرض الضرائب العالية على الواردات والحظر التام عليها في بعض الحالات، بهدف حماية المنتجات الوطنية من المنافسة الأجنبية.

· تحركت القوى الأجنبية لكبح جماح محمد علي الذي تجاوز الحدود المسموح بها، فكان تدمير أسطوله بالكامل على يد تحالف عسكري أوروبي، وليتم بذلك تحجيم قوته والإبقاء عليها ضمن الحدود المسموح بها على مدى السنوات الـ: 12 التالية. وفي عام 1991 كان العالم شاهداً على نسخة جديدة من السيناريو ذاته مع صدام حسين، عندما عملت قوات التحالف التي تقودها أمريكا في حرب الخليج الأولى على تدمير الجيش العراقي، بدرجة تسمح لصدام بالبقاء في السلطة لفترة ما قبل أن تتحرك للإطاحة به .

· مع مدافع الأسطول البريطاني مسلطة على الإسكندرية، وجد محمد علي نفسه مجبراً على القبول باتفاقية التجارة الحرة لعام 1841، التي تلزمه بإلغاء التعريفة الجمركية، والسماح للبضائع البريطانية بالتدفق على السوق المصري، مما شكل مقتلاً للصناعة الوطنية. وبعد احتلال العراق وفي ظل انتشار القوات الأمريكية في كل مكان في البلاد، أصبح يترتب على العراق تبني مبادئ التجارة الحرة والسوق المفتوحة، مما تسبب في إفلاس الشركات الحكومية التي كانت تنشط في عهد صدام وتوفر فرص العمل لمئات الآلاف من العراقيين، الذين وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل بعد الاحتلال.

· تمّ تدهور صحة محمد علي ثمّ خلعه وتولي ابنه ثم وفاته بعد ذلك بشهور وتمّ خلع صدام حسين من الحكم واعدامه بعد شهور .

مستشار ومؤلف وكاتب

تنزيل