هل يمكن للأردن أن يصبح دولة ميزانيتها بدون عجوزات وبدون مديونية ؟ الجواب نعم ولكن ليس بنفس العقول و المناهج التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه ونريد تغييره.

قانون العواقب غير المحسوبة :

يعيش العالم اليوم أزمات عديدة متداخلة ومركبة ، تؤثر الواحدة منها على الأخرى . وأزمات الولايات المتحدة خصوصاً والعالم عموماً يسيطر عليها قانون العواقب غير المحسوبة والمتوقعة . فالحدث الأول كان أزمة فيروس كورونا والتي تم معالجتها بطريقة أقل كفاءة من الدول غير المتطورة كما أسماها البروفيسور Joseph Stiglitz الحائز على جائزة نوبل ، وكبير مستشاري البنك الدولي سابقاً ، ومستشار لعدد من الرؤساء الأمريكيين ، وأضاف ستغليز " إن تقليص او إلغاء ميزانية الوقاية من الأوبئة العالمية من إدارة ترامب قبل قدوم فيروس كورونا ، وان تخبط ترامب وادارته في عمل ما يقوله العلماء والعلم في هذا المجال و يعمله ، قد سبب الوفيات التي لا مبرر لها فلذلك أقول أن يديه ملطخة بالدماء ."

أما العامل الثاني فكان أحد نتائج كورونا فكان الهبوط غير المتوقع لاستهلاك النفط العالمي بحدود 30% ، في وقت شنت الولايات المتحدة بواسطة حلفائها حرب أسعار هدفها ان يكون تخفيض الإنتاج للمحافظة على التوازن بين العرض والطلب من السعودية وروسيا مع بقاء إنتاجها على نفس مستواه. كان لهذا القرار هبوط غير مسبوق بأسعار النفط وآثار تدميرية على قطاع شركات الزيت الصخري الأمريكي مما سبب افلاس العديد منها والتي كانت تعاني أصلا من أزمات مالية وانتقلت الأزمة إلى النظام المالي أيضا الذي كان يعيش في غرف إنعاش وفقاعات فجرها "دبوس" كورونا.

مع ان البروفيسور جوزيف ستغلز هو من أبناء النظام إلا أنه كان يخشى عليه من الانهيار نتيجة لممارسات وول ستريت وممارسات الحكومة الامريكية في تطبيق عولمة يعتبرها مختلة . ولربما الاقتباس التالي يدل على أفكاره بالنسبة للأدوات المالية كالمشتقات التي اخترعها وول ستريت وفيها كثير من الاحتيال اذ كتب يقول : " المشتقات المالية اعتمدت على مبدأ أن هناك أحمق يولد كل دقيقة ... أما العولمة فاعتمدت على مبدأ أن العالم قد أصبح مسرحاً للتفتيش عن هؤلاء الحمقى ، وقد وجدوهم في كل مكان ."

ما يهمنا هنا هو الآثار الاقتصادية للازمات المركبة على الاقتصاد الامريكي كونه سيؤثر سلباً على النظام المالي العالمي بأكمله . يعتقد جوزيف ستغليز : " ان العاطلين عن العمل قد وصلوا الى 15 % وهو اعلى رقم بطالة منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي وانه لن يتفاجئ لو وصل او زاد رقم البطالة عن 30 % خلال هذه الأزمة ."

***

ولكن أين الأردن بعد كورونا:

علينا ان نعترف ان وضع الاردن الاقتصادي قبل فيروس كورونا كان وضعا حرجاً لا يُحسد عليه سواء من مديونية خانقة ، ومن ما يقارب من 40% من السكان تعتبرهم المؤسسات الدولية فقراء او فقراء عابرين أي اولئك الذين في أدنى الطبقة المتوسطة والذين يتأرجحون ما بين تلك الطبقة وطبقة الفقراء وهم مرشحون للبقاء فيها بعد وقت قصير . واذا أردنا البقاء تحت نفس المناهج والبرامج والسياسات

الاقتصادية التي أوصلتنا الى تلك الحالة فسيكون حالتنا بعد أزمة كورونا أسوأ مما كنا عليه قبلها وبكثير. لذلك ولربما في هذه الضارة منفعة وفي هذه الأزمة فرصة لتغيير مناهجنا طوعاً ولتحقيق أهدافنا . ذلك لأن الاصلاح بواسطة المناهج السابقة هو من المستحيلات . عن ذلك كتب ويليس هارمن (Willis Harman ) :"فلقد بدأ الشك يساورنا ان وهمنا الكبير يتمثل في حلول مقترحة كانت هي بادئ ذي بدء اساس الداء". ويضيف :" ان النظام الحالي شأنه شأن المريض الذي يذهب الى الطبيب فيقول للطبيب انه يقاس من عمله الذي يضنيه، لكنه يحب ما يتعاطاه من الكحول في المساء فهي تنسيه هموم النهار، وهو يدخن ثلاث علب سجاير في اليوم وهو يطلب العلاج ولكن دونما أي تغيير في عمله او شربه او دخانه! ويبدو ان مجرد الترقيع في النظام الرأسمالي المعلومالي لم يعد كافياً." ويضيف "ويتعمق شعور الشعوب في العالم الحالي بأنهم أصبحوا بلا حول ولا قوة.. وهم في أكثر الاحيان يعزون تلك المشاعر لاخفاق سياسات قوى النفوذ او الى اليساريين المتعصبين، أو الى الرأسماليين الجشعين. ولكن حقيقة الامر هي أعمق من ذلك وتتطلب تغييراً عميقاً أساسياً في المفاهيم والافتراضات (للنظام نفسه)".

· علينا أن نعترف ان (حلفاء) الاردن منذ تأسيسه لم يريدوا له خيرا بل أرادوا له ان يكون في حالة عوز دائم ليقوم الاردن بالوظيفة التي أرادوها له ولم يريدها لنفسه لان السيادة الاقتصادية يتبعها سيادة سياسية .المساعدات الامريكية والتي في معظمها مساعدات عسكرية لشراء أسلحة من الاجيال الخارجة من الخدمة . لذا هذه المساعدات لا تدخل في الاقتصاد المنتج في الاردن بل يرجع معظمها للولايات المتحدة ثمنا لتلك الأسلحة. علما بأن الخدمات الامنية التي يقدمها الأردن لو تم احتسابها بمعيار كلفة احتساب الخدمات الامنية لشركات بلاك ووتر وامثالها لكانت الولايات المتحدة هي المدينة للأردن باكثر من مديونة الاْردن بكاملها بمرات.

· وعلينا أن نعترف ان ما أصاب لبنان من ازمة مالية اقتصادية خانقة يراد للاردن مثلها وذلك لاجباره على قبول مالم يقبله النظام ولا الشعب وهو تصفية القضية الفلسطينية .

· وعلينا أن نعترف انه اذا لم نغير من نهجنا فإن حكام الكيان الصهيوني العنصريين المتعصبين سيحققوا شعارهم وهو ( للأردن ضفتان هذه لنا وكذلك الاخرى ) .

· وعلينا أن نعترف ايضا ان النهج الاقتصادي الذي ينتهجه كبير (حلفائنا ) يترنح اليوم في عقر داره وهو حسب تعبير أستاذ اقتصاد أمريكي في غيبوبة وفي غرفة إنعاش. فلذلك اصبح التغيير ضرورة لا خيارا.

***

وأخيراً نحو اردن بدون عجوزات :

هناك 4 محاور يمكن إعادة هيكلتها بحيث يصبح الاردن ذا فائض في ميزانيته وبلا عجوزات .

· المحور الاول ، اعادة هيكلة قطاع الطاقة : يمكن للاردن توليد طاقته كاملة من المصادر المتجددة كالطاقة الشمسية والرياح وكذلك من الصخر الزيتي المتوفر بمليارات الاطنان في الاردن .وبذلك بدل ان تكون الطاقة عبئا سالبا يستنزف موارد الدولة يصبح رافداً ايجابياً من روافد الإنتاج يضاف الى موارد الدولة. ال 10 مليارات دولار قيمة صفقة الغاز التي نشتري بها الغاز الفلسطيني المسروق من العدو المحتل يمكن بها بناء 5 محطات كهرباء من الصخر الزيتي بطاقة 2500 ميغاوات، اي اكثر من نصف استهلاك الأردن من الكهرباء. هناك محطة العطارات بطاقة ٥٠٠ ميغاوات وقودها من الصخر الزيتي على وشك البدء في الانتاج واكثر من ٥٠٠ ميغاوات مولدة حاليا من الطاقة المتجددة.باضافة مثلها من الطاقة الشمسية يصبح الاردن منتجا لكامل

كهربائه ويشغل اكثر من ٢٠٠٠٠ وظيفة جديدة. والسؤال هنا: هل من مصلحة الكيان المحتل وحلفاؤه ان يروا مشروعا كهذا يلغي (زبون) مثل هذا ويفقدهم السيطرة وامكانية اغلاق الاقتصاد الأردني برمته متى شاءوا وذلك باغلاق مفتاح (صمام) واحد يستطيع ان يغلقه طفل عمره ٧ سنوات؟

من هنا نقول ان اول خطوة للإصلاح هي إرادة التغيير.

· المحور الثاني ، تغيير ثقافة الاستهلاك وتوفير السبل للمساعدة على تحقيق ذلك : كنت قد بيّنت في مقال سابق أن الاستهلاك وثقافته كانت وليدة دراسات ملخصها ان رأسماليي الثورة الصناعية قالوا انها ثورة انتجت غزارة في الإنتاج وما يحتاجون اليه هو ثورة في غزارة الاستهلاك فأنشأوا كليات الادارة والتسويق في الجامعات التي بدات بالبحث العلمي لتحقيق ذلك.

دخل الأردن مليون سيارة منذ عصر "التجارة الحرة" . لو قلنا ان قيمتها ١٥ مليار دينار والاستهلاك على ٧ سنوات ، فيكون الاستهلاك اكثر من ٢ مليار دينار بالسنة تستهلك مثلها من وقود وقطع غيار وبنية تحتية وصيانتها اي مجموع كلفتها 4 مليار دينار في السنة . لو تم بناء شبكة مواصلات عامة لتوفير سنة اي 4 مليار دينار لاصبح الاردن يوفر كل سنة 4 مليار دينار يستطيع ان يستثمرها في مشاريع انتاجية تخلق وظائف لعشرات الالاف .

· المحور الثالث ، اعادة الهيكلة الادارية : دمج المؤسسات الخاصة التي كانت بناء على توصيات المؤسسات الدولية اياها والتي دمرت الاقتصاد الاردني بتوصياتها ومنها هذه المؤسسات التى أُنشأت لخدمتها لا لخدمة الاقتصاد الاردني . وهذه المؤسسات وصفها الوظيفي هو مرادف للوصف الوظيفي لمؤسسات ووزارات الدولة مما يخلق ازدواجية تتناقض مع الف باء الادارة واستنزفت ما يزيد عن 3 مليار دولار سنوياً . اي ان ما استنزفته هذه المؤسسات خلال عمرها يساوي أو يزيد عن مديونية الاردن.

· المحور الرابع ، السياسة الدفاعية : لا اود التوسع في هذا المجال لكن علينا الاجابة اولاً على السؤال من هو عدونا؟ اذا كان من يعلن جهاراً نهاراً عن اطماعه التوسعية لتشمل اردننا فان ما يعطيه لنا حليف عدونا الاستراتيجي من أسلحة لا تفيدنا في خلق حالة ردع او دفاع بل ان الجيوش الشعبية المقاومة هي الأكثر ردعا والأقل كلفة بكثير. وفي الاردن من الخبراء ما يستطيعون ان يصمموا الجهاز الدفاعي الاكثر مناسبة بعد تحديد من هو العدو .

ما لا يختلف عليه احد ان الأردن غني بإنسانه وقدراته .ولقد اثبتت أزمة كورونا انه حين يتلاحم الشعب مع نظامه فيستطيع ان يحقق الكثير وان مثل هذا التلاحم هو الضمانة الوحيدة لكليهما لما فيه مصلحتهما الحقيقية. فليس للامبراطوريات أصدقاء ولا حلفاء. ولنا في التاريخ عبرة .

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل