هل هناك تناقض بين الفكر الإسلامي والفكر القومي ؟ مهاجمة الإسلام تتم تحت غطاء أكذوبة (الإسلام السياسي) .

تعرض العالم العربي الى غزوات ثقافية منذ قرون كان اشرسها واكثرها تنظيماً وتصميماً وامكانيات البعثات الامريكية التبشيرية البروتستانتية بدءا ببعثة سنة 1820. كان اسلوبهم يعتمد على النفس الطويل لانشاء اجيال جديدة منفصلة عن حضارتها العربية الاسلامية الجامعة وابدالها بهويات فرعية قومية ومذهبية واثنية ضيقة.

قبل ان ينطلق اول مُبشّرَين الى فلسطين سنة 1820 . كان القس ليفي بارسونز أول المتحدثين في كنيسة اولد ساوث في بوسطن قائلاً: "اليهود هم من علمونا طريق الخلاص.. فقد حافظوا وبإخلاص ونوايا صافية على الإنجيل.. ثم قال ”الحقيقة الكبرى أن اليهود هم من زودوا الإنسانية بالمخلص الأعظم.. المسيح”. واضاف بارسون : ”نعم.. إخوتي، إن من سيشفع لكم أمام عرش الله.. هو يهودي... وان على المسيحيين، وعلى سبيل إظهار الامتنان وكنوع من رد الجميل، بذل كل ما يمكنهم من جهد لاستعادة السيادة لليهود في أرض أجدادهم وموطن الإنجيل”.

بدأ المبشرون عملهم باستقطاب المسيحيين العرب من الطوائف الاخرى كان منهم ناصيف اليازجي وبطرس البستاني الذي اشهر تحوله الى المذهب البروستنتي . وحيث ان البروتوستانت يعتبرون ان التوراة هي كتابهم كما الانجيل فقد طلبوا من البستاني ترجمة التوراة الى العربية.تحول بعض المارونيين الى مذهب المبشرين اثار البطريرك الماروني والذي طلب من السلطان طرد هؤلاء الدخلاء.الا ان المبشرين كانت تساندهم وزارة الخارجية الامريكية والاسطول الامريكي المتعاظم في البحر الابيض المتوسط.

***

كان على الحركات التبشيرية ان تبعد الحضارة العربية الاسلامية عن المجتمع لانها حضارة عابرة للقوميات والتي تسمح لها ان تتفاعل ايجابيا عند وجود مظلة ايديولوجية كهوية جامعة وتتصارع عند غيابها . فالاسلام يعترف بالقوميات بل ويعتبرها اساسا للتعارف والتآلف اذ قال تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ".

لذلك اعطى تزاوج القوميات ابهى العصور انسانية فأصبح سيبويه الفارسي ابا اللغة العربية واصبح البخاري من اواسط اسيا من فقهاء الامة واسترجع الكردي صلاح الدين القدس من الصليبيين وهزم قطز القوقاسي التتار والذين ما لبثت الحضارة العربية الاسلامية ان غلبتهم فاسلموا وجاهدوا من اجلها، بل ساد العالم عولمة حميدة قبل عولمة الانغلو ساكسون الخبيثة بقرون. اصبح إبعاد الهوية الرئيسية الاسلامية الجامعة عن المجتمع هو الهدف الاساسي للمبشرين وكانت القومية هي اداتهم للوصول الى مبتغاهم .

يعتبر جورج انطونيوس وكتابه (يقظة العرب) المرجع الاكثر شهرة وتوثيقا ًعن تاريخ القومية العربية . جاء في الفصل الثالث صفحة 117 :

" بدأت قصة الحركة القومية للعرب في بلاد الشام سنة 1847 بانشاء جمعية قليلة الاعضاء في بيروت في ظل رعاية امريكية . فأنشأت الجمعية في بيروت باسم ( جمعية الاداب والعلوم ) وكان من اعضائها اليازجي والبستاني وكذلك ايلي سميث وكورنيليوس فان دايك ، وعدة اعضاء اخرين من الامريكان . .. ولم يكن فيها عضو مسلم او درزي ." استمر تاسيس الجمعيات و توسيع مشاركة الاقليات

من الطوائف الاخرى بالتدريج. فمنذ بداية الحركة القومية اسسها ورعاها نفر قليل من الاقليات. ففي سنة 1857 تم تاسيس ( الجمعية العلمية السورية) وكانت امتدادا لجمعية 1847 ( التي كانت حصرية للمسيحيين فقط ) ولكن تم اضافت اقليات اخرى فكان الامير الدرزي مجيد ارسلان في هيئة ادارتها بل ترأس ادارتها لبعض الوقت . الا ان دائرة سرية ضيقة كانت تعقد لاتخاذ القرارات. كتب انطونيوس صفحة 120 :"يحق لنا ان نقول ان اول صوت ظهر لحركة العرب القومية كان ف ي اجتماع سري عقده بعض اعضاء ( الجمعية العلمية السورية ) . وكان احد الاعضاء وهو ابراهيم اليازجي .... قد نظم قصيدة في جوهرها تحريض للعرب على الثورة ... واهابت بالعرب ان يتحدوا ويلقوا عن اعناقهم النير التركي . "

***

اقام المبشرون شبكة ضخمة للتعليم لتفصيل جيل جديد (حسب الطلب). فانشات زوجة المبشر ايلي سميث اول مدرسة للبنات ، كما تم انشاء مئات من المدارس التبشيرية.اما

"الكلية البروتستنتينية السورية " في بيروت التي اسسها سنة 1866 القس البروتستنتي الاميركي دانيال بليس وغيرت اسمها الى الجامعة الاميركية في بيروت سنة 1920 فكان نظامها الاساسي يدعو لنشر الفكر القومي العربي . ولقد حققت نجاحاً باهراً في هذا المضمار حيث ان اكثر قيادات الجماعات القومية كانت من خريجيها ومن الاقليات. اسس قلة من خريجيها جمعية قومية سرية كانوا جميعا من الاقليات و الماسون. وحين اكتشف العثمانيون امرهم ، تفرق هؤلاء وهاجر بعضهم الى مصر. وهنا نستحضر ان الجمعيات السرية لنشر القومية العربية كان اغلبها من الماسون . فوثائق وزارة الخارجية البريطانية تضم رسالة من السفير البريطاني لوثر في اسطنبول الى وزارته في لندن يقول فيها ان حركة الاتحاد والترقي والتي قادت الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني كانت حركة يهودية ماسونية لها فروع في كافة ارجاء الدولة العثمانية . قد لا تعجب هذه الحقيقة البعض والذين يقول عقلهم الباطن لا تخبرني بالحقيقة بل اخبرني بما احب ان اسمع !

من الجدير بيانه ان الجيل الذي دربه المبشرون في لبنان من الاقليات قاد الانقلاب الثقافي والاجتماعي في مصر وسيطر على وسائل الاعلام والتاثير بشكل شبه كامل. بالرغم من ان مصر هي قلب الامة ومركز الازهر فقد تم حركات التغريب والانقلاب الثقافي والاجتماعي بواسطة افراد من الاقليات اللبنانية التي دربها المبشرون . وكان للماسونية في مصر مجلة تنشر أخبارها وتشيد بها ، هي مجلة (اللطائف ) التي كان يصدرها شاهين مكاريوس , وهو لبناني وعمل مدة في المطبعة الأمريكية في بيروت . وكذلك جاء من لبنان فارس نمر ( وكان احد الاعضاء من الجمعية السرية الماسونية القومية في بيروت ) وقد انتمى إلى الماسونية في بيروت سنة 1874 .

اسس يعقوب صروف وفارس نمر جريدتين الاولى في القاهرة بأسم المقطم والثانية في الخرطوم . ونمت الحركات الماسونية في مصر وكان من اعضاءها سعد زغلول حتى مماته . وقد وجه المحفل الماسوني الوطني المصري الأكبر إلى أهل فلسطين اثناء ثورتهم الكبرى عام 1936 النداء التالي : ( يا أهل فلسطين تذكروا أن اليهود هم إخوانكم وأبناء عمومتكم ، قد ركبوا من الغربة ، فأفلحوا ونجحوا ثم هم اليوم يطمحون للرجوع إليكم لفائدة وعظمة الوطن المشترك العام.)

إن النهضة الحقيقية للصحافة المصرية لم تحدث إلا على يد الصحافيين غير المصريين من اللبنانيين وثيقي الصلة بمراكز التبشير اللبنانية والمحافل الماسونية واسسوا اكثر من 200 صحيفة حتى الحرب العالمية الثانية . كان القس الدكتور لويس صابونجي من بيروت أول صحفي من أصول شامية يؤسس مطبوعة في مصر، وتم ذلك عام 1871، تحت اسم مجلة النحلة الحرة. وصل سليم تقلا إلى الإسكندرية قادماً من لبنان، ثم تبعه أخوه بشارة في العام التالي، وأسسا مطبعة ودار الأهرام في الإسكندرية قبل نقلها إلى القاهرة، وبعدها اسسا جريدة الاهرام لتصبح أهم جريدة مصرية منذ أعوامها الأولى.

وعقب وفاة الأخوين أدارت بتسي تقلا، أرملة بشارة، الأهرام مع جبرائيل تقلا. وفي زمنه كانت رئاسة تحرير الأهرام حكراً على اللبنانيين، من غير المسلمين سواء الشاعر خليل مطران، وصولاً إلى أنطون الجميّل وهي العائلة التي انشأت حزب الكتائب اللبناني والذي تحالف مع اسرائيل في الحرب الاهلية اللبنانية . و تعاقدت الأهرام عام 1957 مع محمد حسنين هيكل لتولي رئاسة تحرير الأهرام. عام 1890، أسس نجيب متري وجرجي زيدان ( وهما لبنانيان ماسونيان) مطبعة ودار المعارف. ولكن زيدان اختلف مع متري وانفصل عنه ليؤسس مطبعة ودار الهلال عام 1892 وعقب وفاته، طوّر إميل وشكري زيدان الدار بإصدار مجلة المصور ومجلة سمير المتخصصة للاطفال.

أما مجلة روز اليوسف فأصدرتها اللبنانية روز اليوسف التي تمّ تبنيها من عائلة مسيحية لبنانية ولم تعرف أنها مسلمة الا في سن العاشرة حيث هربت الى الاسكندرية وعملت في الفن. أما صناعة الفن فكان ابطالها في البداية من اليهود والاقليات من بلاد الشام. كان من اشهر ملحني ام كلثوم داوود حسني واسمه الحقيقي داوود حاييم ليفي . كانت من اوائل اغانيها التي يمكن سماعها على اليوتيوب اسمها ( الدلاعة والخلاعة مذهبي.) واتحفتنا الدرزية اسمهان باغنية ( ما بين رنين الكاس ) الى ان انتقلت الدلاعة والخلاعة الى عبد الوهاب في اغنية ( الدنيا سيجارة وكا س) . هذا هو الفن الذي انتج مجتمع( السح الدح امبو ) الذي نعيشه اليوم .

***

اكذوبة الاسلام السياسي:

لعل اهم نقطتين ركز المبشرون والاستعماريون عليهما هي ان علينا ان نختار بين الحضارة العربية الاسلامية او القومية العربية مع انهما لا يتعارضان ، واكذوبة الاسلام السياسي جاءت لمحاربة العقيدة والايديولوجية الاسلامية.

كان يعيش في شبه جزيرة العرب في الجاهلية شعبان : احدهما كان معظمه من القبائل الرحل ، وكانت تتنقل ما بين الحجاز ونجد حتى نهر الفرات لرعاية ابلها باختلاف المواسم . وكان الشعب الاخر يعيش حياة مستقرة في بلاد اليمن وحضرموت .وكانت لفظة العرب تطلق في معناها السلالي ( الاثنوغرافي ) الضيق على الشعب الاول وحده . واصبحت لفظة العرب وعبارة العالم العربي تستعملان في مجال اوسع كثيرا نتيجة الانتشار الاسلامي .اذن فالعالم العربي جاء نتيجة الفتح الاسلامي فهو توأمه ، اما العرب بدون اسلام فهم اعراب.

شهد القرن الثالث الميلادي قيام مملكتين عربيتين مزدهرتين في تدمر والحيرة . تأثر العرب بحضارات تلك المناطق ولم يؤثروا وكذلك كان اثر اللغة العربية محدودا جدا . وكان بعضهم عملاء للروم وعمل الاخرون عملاء للفرس. اما في القرن السابع فقد جاء هؤلاء الفاتحون تحت راية الاسلام مزودين بقوة روحية لم تتح لهم في اي هجرة سابقة . ولم يستطع شيء ان يقف في طريق هذه القوة . وانهار النظام القديم للحضارات الواهية ذات الاصول المتعددة . بل وانهارت امبراطوريات العصر ( الروم والفرس).

والسؤال هنا : ما هي ومن اين جاءت هذه الطاقة الهائلة واكرر الطاقة الهائلة التي لم تستطع اي حضارة او دولة ان تقف امامها ؟ وقد عرف المبشرون والمستعمرون مصدر هذه الطاقة فاصبح فصل الطاقة الاسلامية عن العربية هو الهدف لاعداء الامة . وكان هذا جوهر حركات الغزو الثقافي والذي نتج عنه تفكيك الدولة الواحدة وتغليب الهويات الفرعية على الهوية العربية الاسلامية الجامعة . ولم تكن عظمة الاسلام في انه فتح تلك الرقعة الفسيحة من العالم المعروف انئذ . بل كانت في انه منح تلك البلاد حضارة جديدة هي الحضارة العربية الاسلامية فاصبح الفارسي والرومي والكردي والامازيغي يقرؤون قُرآنا بالعربية ويتوجهون خمس مرات كل يوم في صلاتهم الى قلب الجزيرة العربية.

***

كفانا نفاقا وجهلا وتجهيلا ! امة عربية واحدة... نعم ! ذات رسالة خالدة... نعم ! وقولوا انها رسالة الاسلام الذي يحاربه الصهاينة العرب قبل الصهاينة الصهيواميركيون .انها الرسالة التى جعلت من ضعف العرب وجاهليتهم قوة حين حملوها، وهي الرسالة التي لما تركوها رجعوا الى جاهليتهم وضعفهم كما نراه اليوم .

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل