نحن نعيش أزمة رباعية مركبة لم يشهد لها العالم مثيلا منذ عدة عقود لكنها لن تؤدي الى حرب عالمية موديل 1939 حيث اننا نعيش منذ عقود الحروب بالوكالة وحروب الاجيال التكنولوجية والاقتصادية . لكن العالم اليوم على كف عفريت ونظامه الاقتصادي والمالي والسياسي غير قابل للحياة. والعرب اليوم هم أيتام الهنود الحمر الذين باعوا جزيرة منهاتن ب 42 دولار .

هناك اليوم أربع أزمات خطيرة ومتداخلة وهي :

· أزمة نظام عالمي ذي قطب واحد يترنح ويعاد تشكيله ونحن في المرحلة الانتقالية نعيش مرحلة (نظام اللانظام ) الذي تصاحبه الفوضى عند الانهيار او اعادة تشكيل النظام .يضاف الى ذلك انقسام الدولة العميقة ومكونات الشعب الامريكي ما بين مؤيد للعولمة ومناهض لها.

· ازمة صحية عارمة تؤدي الى فكفكة عالم مفتوح ومترابط يعتمد على هذا الترابط والعلاقات البينية المفتوحة كي يعمل بكفاءة ليجد ذلك النظام انغلاقا مفاجئاً لتلك الحدود كرها لا طوعا بما ينتج عن ذلك من تباطئ وخلل اقتصادي وانهيار في اسواق المال وجميع هذه العوامل تهدد باصابة العولمة الأمريكية في مقتل.

· أزمة مالية عالمية تُبيّن زيف النظام المالي العالمي الافتراضي القائم والذي يمشي ميتاً منذ أزمة 2008 والتي تم معالجة اثارها لا اسبابها .

من البداية أود أن أؤكد ان من السخافة الظن بأن حروب اسعار النفط هي ما بين دولة (ركبت رأسها ) وقررت أن تغامر في حرب أسعار مع دولة عظمى كروسيا . قالت ال ( وول ستريت جيرنال) فإن الخبراء متحيرون لفك اللغز وراء الأسباب الحقيقية لحرب اسعار النفط وفي توقيتها .ولكن عندما تتحدث عن أسعار النفط فابحث فورا عن أين تريدها الولايات المتحدة ولماذا. فلقد كانت الأسعار والى حد كبير منذ ولادة صناعة النفط والى يومنا هذا تتأثر كثيراً وتتبع سياسات الولايات المتحدة إما مباشرة حين كان لها فائض انتاج حتى سنة 1970 يسمح لها ان تكون المنتج المرجح للعرض والطلب لتصل الى السعر الذي تريده ، الى ان أوكلت هذا الدور المرجح الى المملكة العربية السعودية للقيام به عندما اصبحت مستوردة للنفط . ومن هنا علينا ان نبدأ في البحث عن أسباب حرب الأسعار الحالية.

كان أول وزير نفط سعودي هو الشيخ عبدالله الطريقي الذي كان عالما بشؤون النفط حيث تخرج في الكيمياء من جامعة القاهرة (فؤاد الاول آنذاك ) و حصل على الماجستير في الجيولوجيا وبتخصص فرعي هندسة البترول من جامعة تكساس. عند رجوعه الى بلده في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي هاله ما رآه من ممارسات شركة أرامكو سواء من انفراد ادارتها الأمريكية في تقرير كمية الانتاج او حتى تسعيره دون الرجوع الى الدولة المنتجة. بعد عمله في وزارة المالية مسؤولا عن حسابات ارامكو ثم بعد ان اصبح عضوا في مجلس ادارتها اصطدم مع ادارتها ، لكنها لم تأبه لتوصياته . تم تعيينه اول وزير نفط سنة 1960 وأراد ان يقوم بإصلاحات واستملاك الدولة لسيادتها لكنه كان في شقاق دائم مع إدارة أرامكو فاسموه ( الشيخ الاحمر ) مدعية انه ماركسي التوجه ،لكن كان كل من يعرفه يسمونه الوفي الامين اوالبترولي الفقير . كان هو أول من تبنى شعار (بترول العرب للعرب ) ويرى مصلحة متبادلة بالتكامل الاقتصادي العربي ، بل وكان مساهما في انشاء (مركز دراسات الوحدة العربية ) وكان سعوديا

عربيا مسلما مخلصا عالما بشؤون عمله. حين سألته النيويورك تايمز لماذا ساهم في تاسيس اوبك فأجاب : " نحن ابناء الهنود الحمر الذين باعوا منهاتن ب 42 دولار ونريد تغيير الصفقة. " لكن الشيخ عبد الله لم يكن يعرف عن صفقة روزفيلت – ابن سعود على ظهر الباخرة دارسي والتي كان جوهرها مبادلة النفط مقابل حماية النظام . فتم إزاحته عن منصبه بعد 15 شهر فقط ، وتم تعيين المحامي الشرعي احمد زكي اليماني عوضا عنه. هاجر الشيخ عبدالله الـي الكويت بعد ذلك ( حيث قابلته هناك ) ثم انتقل إلى مصر وتوفى رحمه الله بنوبة قلبية هناك .

كان اليماني ابن مكة وكان أدرى بشعابها و بدهاليز الحكم والصفقات . وكان امينا في تنفيذ رغبات (الحليف الأمريكي ) بما يتعلق بشؤون كميات الإنتاج و الأسعار المطلوبة من "الحليف". كان معجبا بالدور الموكل إليه والاضواء المصاحبة له ، فقال مختالا وكأنه هو صاحب القرار : " لتدمير الدول المنتجة يكفي أن نرفع انتاجنا إلى أقصى طاقته، ولتدمير الدول المستهلكة، يكفي أن نخفض معدلات إنتاجنا . " لكن الجميع كان يعلم من هو صاحب قرار تسعير وكمية الإنتاج لتحقيقه ولمصلحة من .

في دراسة إحدى الحالات بعنوان (السيطرة على النفط العالمي) في كلية الدراسات العليا لجامعة هارفرد جاء فيها :"سأل أحد طلبة كلية البترول السعودية في الظهران، وزير بترول المملكة العربية السعودية أحمد زكي اليماني في يناير 1981، هذا السؤال : "المواطن السعودي الذي ينظر إلى السياسة النفطية الحالية سيجد بأن المملكة تنتج أكثر مما يحتاجه اقتصادها، وتبيع نفطها بأسعار أقل من المعدلات الجارية، بل أقل من الأسعار التي تبيع بها دول الخليج الأخرى . ومع ذلك فإن هذه التضحية تقابل بهجمات معادية من قبل الصحافة ووسائل الإعلام، بل وحتى من مسؤولين حكوميين كبار في الدول الغربية. ألا تعتقد بأنه حان الوقت لأن نتوقف عن التضحية بأنفسنا في سبيل إرضاء الاخرين ؟ "

نرجع الى السؤال اين مصلحة الولايات المتحدة في حرب الاسعار اليوم ؟

أعتقد أن ما يجري اليوم هو صدمة نفطية عكسية لصدمة 1973 لزيادة الأسعار 400% أنذاك. كانت الزيادة جزءا من خطة تمت في مؤتمر بلديربيرغ بالسويد في مايو 1973 كان على راسه هنري كيسنجر وكبار رؤساء مجالس إدارات البنوك والشركات النفطية الكبرى لبناء نظام مالي افتراضي جديد يعتمد على مقدرة الولايات المتحدة بطباعة ما تريده من الدولارات دون رقيب ودون تغطية بعد ان فك الرئيس نيكسون ارتباط الدولار بالذهب والغى نظام سعر الصرف الثابت حسب اتفاق بريتين وودز سنة 1944 . كان جزءا من الخطة رفع اسعار النفط لطباعة مزيد من الدولارات ثم ارجاعها الى البنوك الامريكية خصوصا لتغطي ديون الولايات المتحدة عبر سندات الخزينة . كما تم فرض تسعير البترول بالدولار فقط لفرض خلق الطلب عليه . وكما كان مخططا اضطرت الدول النامية خصوصا الى الاستدانة بالدولار لسداد فواتير استهلاكها من النفط ومن هنا بدأ نظام مصائد الديون التي افقدت الدول سيادتها الاقتصادية وبالتالي سيادتها السياسية . وكان ذلك سببا في انفجار كميات الدين العالمي الى ما وصلت اليه اليوم . وعلى سبيل المثال عندما كان سعر النفط 120 دولار للبرميل والاستهلاك العالمي 90 مليون برميل في اليوم كان ذلك يمكن الولايات المتحدة من طباعة 10 مليار و 300 مليون دولار يوميا اي 3.759 تريليون دولار بالسنة يرجع اكثرها الى خزائن البنوك الامريكية وسندات الخزينة الامريكية وبالمقابل تزداد ديون الدول المستهلكة وخصوصا الفقيرة بما يعادل هذا المبلغ تقريبا . يبدو ان المطلوب اليوم هو تخفيض الاسعار منعاً لانفجار فقاعة الديون العالمية وخصوصا في الولايات المتحدة . وسنقوم بتفصيل اكثر في نهاية هذا المقال .

***

ازمة الكورونا العالمية :

جاءت هذه الأزمة لتزيد الاقتصاد العالمي سوءا فوق سوء . من اهم انعكاساتها السلبية الاقتصادية انها اغلقت قنوات الانفتاح العالمي بين الدول بل وبين الدولة الواحدة ومحافظاتها مما عطل التجارة البينية العالمية والنمو للعديد من الدول بما في ذلك نمو الاقتصاد العالمي .خسر سوق المال العالمي حوالي 16% من قيمته حتى قبل انهيار اجتماع اوبك الاخير . تم اغلاق الكثير من الحدود بين الدول بل والغاء التنقل بين الدول كإيقاف رحلات الطيران بين الولايات المتحدة واوروبا مما سبب في انهيار الاسهم الى درجات غير مسبوقة. كذلك صنفت منظمة الصحة العالمية اوروبا كبؤرة رئيسية لانتشار وباء الكورونا ، كما تم اعلان حالة الطوارئ الوطنية في جميع أنحاء البلاد .وكمثال آخر فلقد تم تعطيل جزء من الاقتصاد الصيني في شهري يناير وفبراير مما أثر على التجارة البينية العالمية وسبب أيضا انخفاض استهلاك النفط في الصين بمقدار 20% أي ما يعادل حوالي 2.8 مليون برميل يومياً والذي سبب خللا مفاجئا في معادلة العرض والطلب و كان احد اسباب الخلاف بين أعضاء أوبك . كانت خسارة القيمة السوقية لأسهم الشركات الكبرى اول 3 ايام بعد فشل الاتفاق على حصص الانتاج في أوبك حوالي 2 تريليون دولار.ان هبوط اسعار النفط الى مستواه الحالي في حدود 35 دولار للبرميل سيُعرّض صناعة النفط الصخري الى خطر جسيم وبالتالي قد يصيب بعض الولايات مثل تكساس وشمال داكوتا بتباطؤ اقتصادي حاد وسريع .لكن يبدو ان ذلك سيكون اقل سوءا من استمرارية الاسعار المرتفعة وما يترتب عليها من زيادة الدين العالمي . دعنا هنا فقط نبين ان دخل السعودية بزيادة طاقتها الى 12 مليون برميل بسعر 35 دولار يعطيها دخلا يوميا يساوي 420 مليون دولار في حين ان دخلها كما كان قبل سنة على 10 مليون برميل بسعر 70 دولار كان يعطيها 700 مليون دولار يوميا أي أنها تخسر 280 مليون دولار يوميا بحرب اسعارها هذه . علماً بأن عجوز ميزانيتها كانت 50 مليار وسترتفع الى 100 مليار نتيجة حرب الاسعار هذه في حين ان روسيا لديها احتياطي يكفيها حسب قولها ما بين 6 الى 10 سنوات على سعر 32 دولار للبرميل . فمن هو الخاسر الاكبر في هذه الحرب ؟

***

الانصهار المالي !:

خلال الاسبوع بين 9/3/2020-13/3/2020 انخفضت البورصات الأوروبية بنسب تتراوح ما بين 20-23%، وهو وضع أسوأ بكثير مما كان عليه الوضع عام 2008.وعلى مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، خسرت البورصات في ألمانيا وفرنسا 33%، في المملكة المتحدة 30%، الولايات المتحدة 26%، اليابان 28%، بمعنى أن الأسابيع الثلاثة الماضية شهدت تدمير نمو الأسهم الذي حدث على مدار 4-10 سنوات . كذلك قام البنك المركزي الأمريكي بضخ 1.5 تريليون دولار خلال يومي 12و 13 مارس ، وهو لإسعاف عملية انهيار سوق الاسهم ، كما وعد البنك المركزي الامريكي ليصبح ما سيتم ضخه حتى نهاية شهر مارس هذا 4 تريليون دولار. وحتى يوم 12/3/2020 ، كان حجم الدولارات المتداولة في العالم هو 4.2 تريليون دولار !!! أي أن عدد الدولارات المتداولة في العالم خلال 3 أسابيع قد يتضاعف تقريبا دون زيادة مقابلة في حجم السلع مما سيزيد من التضخم بشكل كبير .

والسؤال هنا ما سبب انهيار الاسهم بهذا الشكل وضخ هذه التريليونات بهذه السرعة من البنك المركزي الامريكي ؟

***

والخلاصة :

جاء في تقرير من المعهد العالمي للتمويل IIF بتاريخ 15 نوفمبر 2019 إن الدين العالمي قد يزداد ليصبح 255 تريليون دولار بزيادة 70 تريليون بنهاية سنة 2019. كانت هذه الزيادات ورقية من مطابع الدولارات الأمريكية دون مقابل حيث أن الدين العالمي يزيد 220% من الناتج المحلي الاجمالي العالمي (GDP) .حتى حسب معايير صندوق النقد الدولي للدول يُعتبر تصنيف الدولة بمثل هذه النسبة دولة فاشلة و بنفس هذا المعيار يمكن اعتبار النظام المالي العالمي نظاما فاشلاً.

خذوها مني من الاخر: النظام الاقتصادي والمالي والسياسي الحالي لا يمكن ديمومته . قال رئيس البنك المركزي الأمريكي جيروم باول " الدين العالمي ينمو اكثر من النمو الاقتصادي وهذا أمر غير قابل للبقاء ". تريليونات المطابع الأمريكية للدولارات تأتي بتلك الدولارات من الهواء وتدخل في فقاعة الدين العالمي التي ستنفجر وبذلك ترجع تلك الدولارات إلى الهواء من حيث أتت . وهكذا تنتهي مسرحية النظام المالي الافتراضي الذي جعل من الاقتصاد العالمي كازينو ليتطفل على النظام الاقتصادي المنتج.

وكما أسلفنا الحروب العالمية مستعرة منذ عقود كحروب بالوكالة او حروب الاجيال الرابعة والخامسة بل والسادسة . أليست الحرب في سوريا هي حرب عالمية بالوكالة ؟

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل