"من نحن ؟ سؤال يجب أن نحسمه قبل أن نتحرك في أي اتجاه ." تُهْنا آخر 100 سنة لإننا فقدنا هويتنا فتعطلت بوصلتنا. كيف ولماذا اصبح انتداب ماكرون الفرنسي الجديد اكثر وطنية وانسانية من ملوك الفساد اللبنانيين؟

كتب احد المعلقين من ذوي الثقافة الواسعة والخبرة العملية تعليقا في رأي اليوم جاء فيه :" من نحن اولاً !!!!! سؤال يجب أن نحسمه قبل ان نتحرك بأي اتجاه ، هل نحن اولا عرب ام هل نحن اولا مسلمون ، ام نحن اولا سنة؟ هل نحن اولا اردنيون / فلسطينيون / شاميون ( اردن فلسطين سوريا لبنان )؟ ام هل نحن اولا عرب ، وهل نحن اولا ابناء عشائرنا ام ابناء مناطقنا ام ابناء وطننا ؟ نعيش في منطقة ضمت لعشرات القرون حضرا وريفا وبادية ، عربا وعجما وكردا وتركمان وقوقاز وامازيغ ، مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة لكل منهم عشرات الاعراف والمذاهب ، لذلك يجب ان نعرف من نحن اولا ثم ثانيا ثم ثالثا ثم رابعا قبل ان نتحرك لان كل خطوة خطوناها على مدى قرن واكثر ادت لفوضى . لدينا تجربة واحدة ناجحة حولت مكونا مسحوقا فقيرا الى القوة الاهم والاكثر نفوذا وتاثيرا وهي تجربة حزب الله لانه قام بتعريف ذاتي قوامه ( نحن شيعة اولا، لبنانيون ثانيا ، شاميون ثالثا ، مسلمون رابعا ، عرب خامسا ) ويتعاملون بوضوح حسب هذه الاولويات مع الجميع. لذلك التحم عندهم القوي يحمي الضعيف والغني يحمي الفقير وتحولوا لكتلة متكافلة متينة ضاربة يحسب الجميع حسابها بعدما كانت مكون مهمش فقير يتحكم في حياته اقطاعيون . لنحسم من نحن اولا ثم ثانيا ثم ثالثا ثم رابعا قبل اي خطوه كما فعل حزب الله ، فالسلاح وحده مهما تنوع لا يكفي والمال وحده مهما زاد لا يكفي اذا كان من يحمل السلاح او من يملك المال لا يعرف بوضوح من هو وماذا يريد. "

أنا اتفق مع الاخ المعلق ، وإن كنت أعتقد ان حزب الله قد رتب اولوياته كمسلمين من المذهب الشيعي اولا ( ونأمل من فقهاء السنة والشيعة ازالة هذه العوالق المذهبية التي لم يكن لها اصل في مصادر الاسلام الرئيسية ) . لكن المهم انه حدد هويته بشكل واضح وبنى عليها فأحدث تغييرا ثوريا للطائفة الشيعية المهمشة في لبنان نتيجة تحديد هويته أي "من هو"؟

كنت وانا في الصفوف الابتدائية الاولى في أوائل اربعينيات القرن الماضي اذهب الى مدينة الخليل في عطلة الصيف لقضاء اسبوع في ( الكروم ) عند عمتي . ومع اني قضيت اجازات في بلدان كثيرة من العالم ليس بدءا بسويسرا ولا انتهاءا بهونولولو الا ان اجازة "الكروم" في بيئة كانت مزيجا من الحياة البسيطة والصادقة والجميلة جعلها افضل الاجازات في ذاكرتي حتى اليوم . كان زوج عمتي الشيخ عزت قد قضى نصف عمره في فلسطين التي كانت جزءا من الدولة العثمانية والنصف الاخر ايام الانتداب البريطاني . كان يداعبني بسؤال محير بمزيج من الجد والهزل :هل انت مسلم ام عربي ام فلسطيني ام قدسي -لاننا نعيش في القدس- ام خليلي -لان عائلتنا اصولها من الخليل -؟

كان سؤال الشيخ عزت هو نفس ما كتبه عزيزنا المعلق بوجوب تحديد من نحن اولا وثانيا وثالثا ورابعا !

سنبقى مئة سنة اخرى في التيه نفسه مالم نُحدد هويتنا ونُجيب على السؤال من نحن أولا وثانيا وثالثا ورابعا وسيبقى الكُتّاب يكتبون ويتفلسفون ويُنظّرون الى يوم يبعثون ، والمعلقون يعلقون وهؤلاءِ وهؤلاء في ضياع يعيشون ، لن يصلوا الى اي نتيجة يبتغون ما لم يتم تعريف هويتنا ومن نحن !

يقول الاستاذ المعلق يجب أن نعرف من نحن قبل أن نخطوا خطوة واحدة لان الخطوات التي قمنا بها منذ قرن أو يزيد لم ينتج عنها سوى المزيد من الفوضى ، وانا اضيف ان تلك الخطوات اوصلتنا إلى وضعنا المزري المخجل المهين هذه الأيام . بنى الاستعمار المباشر انظمة وكيانات على اسس قبلية وعائلية ومذهبية وطائفية وقومية وغلّب هذه الهويات الفرعية على هويتنا المستمدة من حضارتنا . بينما رفض السلطان عبدالحميد الثاني التفاوض مع الحركة الصهيونية باعتبار ان ارض فلسطين هي ارض اسلامية لا يستطيع ان يتصرف بها اي حاكم ، كان خداع الانجليز لقادة الثورة العربية ممكنا لانها لم تحدد هويتها بوضوح . كان الامير فيصل يعتبر حركته حركة قومية عربية حيث تم تكريسه في مزرعة آل البكري بضواحي دمشق بتنظيم سري ! لترتيب لقاء بين الامير فيصل ورئيس الحركة الصهيونية العالمية حاييم وايزمان كتب العقيد والدبلوماسي البريطاني مارك سايكس ( احد ثنائي اتفاقية سايكس وبيكو) إلى الامير فيصل

“ أدرك أن العرب يكرهون ويحتقرون ويدينون اليهود.. ولكن صدقني.. فأنا أتحدث عن الحقيقة عندما أقول بأن هذا العرق، الضعيف المكروه، عالمي ومتنفذ ولا يمكن القضاء عليه ..." كما اضاف سايكس في رسالته بأن اليهود:" موجودون في كل دولة، وفي كل بنك، وفي كل قطاع تجاري بل وفي كل مشروع".
هذا النداء وُجّه في آذار/مارس 1918، اثناء الحرب العالمية الأولى، وكانت اول دعوة للتطبيع كما جاء في مقال لجريدة جيروزاليم بوست . عندما ذكر البروفيسور جوزيف باوار استاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد هذه الحقيقة كذّبته ،فجاء في اليوم التالي بوثيقة موقعة من الامير فيصل ووايزمان عرضها على سلايد ليراها الحضور . لكن تعريف الهوية للشريف ا لحسين كان مختلفا .

كتب مايكل أورين في كتابه المعنون : السلطة، العقيدة والخيال، يقول:” بعد الرفض القاطع الذي أظهره العرب المسلمون للطروحات الدينية للجماعات التبشيرية، تعاملوا مع الأفكار القومية الجديدة بفتور.. فقد كان لديهم الأمة الإسلامية التي تمثلها الدولة العثمانية بالفعل ولم يكونوا بحاجة لجهة جديدة تلزمهم بالولاء.. وبدلاً من الانفصال عن الإمبراطورية ، وجد هؤلاء بأن من الأفضل لهم محاولة الحصول على حقوق إضافية ضمن الدولة وتحقيق الوحدة ليس من خلال فلسفة دخيلة بل بالعودة للإسلام”وقد اثبت التاريخ ان هدم الدولة العثمانية بدلا من اصلاحها اوصلنا الى مانحن فيه . حددت الدولة العثمانية بأن هةيتها هي الاسلام وأن فتوحاتها كانت باسمه وانها لم تكن دولة ابادة فقد تركت اصحاب الاديان والقوميات الاخرى على دينهم وعلى قوميتهم اما الابادة الجماعية فلم تبقي ولم تذر من عشرين مليون مواطن اصلي سوى بضعة الاف وضعوا في محميات كالسجون .

تم احضار الامير فيصل الى لندن تمهيداً لمؤتمر السلام في فيرساي وطلبوا منه التوقيع على استثناء فلسطين من الدولة العربية العتيدة وبالرغم من استشارة فيصل لوالده والذي جاء رده بالرفض وعدم التوقيع الا ان فيصل وقّع على الوثيقة وكانت النتيجة ان اصبح ملكا على العراق وتم نفي والده الشريف حسين بعد خلعه عن مملكة الحجاز . هذا مثال على صراع الهويات وعدم وضوح تحديد الهوية ومن نحن .

****

صراع الهويات :

عدا الصومال وجُزر القمر زُرت كل دول الجامعة العربية بلا استثناء مرات عديدة . اثناء تمرد الاكراد المسلح في شمال العراق سألت كردياً كان يعمل مهندسا في شركة النفط الوطنية العراقية لماذا تثورون بدل الانخراط في مجتمع وطنكم الكبير ؟ اجاب بعد ان وثق بي بأن الحُكم يقول انه قومي عربي وبكل بساطة نحن لسنا عرباً . كما قسم الاستعمار العالم العربي قسم الاستعمار كردستان بين اربعة دول وبينما نحن حوالي ثلاثين مليون انسان له لغته وثقافته وتاريخه تم تقسيمنا وتم رفع اعلام وخلق كيانات ودول عدد سكانها لا يتجاوز عشرات الالاف . قلت له لكنكم كنتم تعيشون بانسجام مدى قرون عديدة مع العرب فأجاب : بكل بساطة لان هويتنا كانت اسلامية لا قومية . سألت احد الامازيغ ( البربر ) السؤال نفسه فأجاب بأن كتب التاريخ في العالم العربي تكذب ولا تعترف بهويتنا فادّعوا ان طارق بن زياد مثلا عربي مع انه من الامازيغ ، واضاف : اذا ارادوا ان يقولوا لنا اننا عرباً فيا اخي وبكل بساطة نحن لسنا عرباً ، وان قالوا لنا اننا وانهم (اي العرب) مسلمون فعندئذ نقول لهم نحن واياكم اخوة . هكذا غلّب الاستعمار اثناء حقبة الاستعمار المباشر وغير المباشر الهويات الفرعية فبلد مثل لبنان به 18 هوية فرعية معترف بها رسميا !

في مقال سابق بيّنت ان الدول التي استعادت هويتها في منطقتنا قد حققت تقدما اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وذكرت ايران وتركيا وحزب الله الذي استطاع ان يقهر اعتى دولة ورأس جسر الاستعمار وحقق ما لم تستطع الدول العربية جمعاء ان تحققه في معادلة الردع .

***

المطلوب هوية ايديولوجية جامعة :

اثبتت التجربة القومية العربية انها صيحة حق اريد بها باطل لاستفزاز الهويات الفرعية الاخرى في الوطن العربي . ويجب على هذه الهوية المطلوبة ان تحترم الاقليات والاديان بل والقوميات المختلفة . وان تكون على اساس ( ديمقراطي تمثيلي) في مجتمع عادل ومتكافل . السؤال للاخوة والأخوات القراء : هل نستورد مثل هذه الايديولوجية ومن اين؟

تقول الويكيبيديا ان صحيفة المدينة اي دستور المدينة كانت " أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية... وقد أطنب فيه المؤرخون و المستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره أغلبهم مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.

ويهدف دستور المدينة إلى تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات .... ، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل ." . وكان دستور المدينة يشمل ويحترم المسلمين واليهود والنصارى ويشمل ويحترم خليط من القبائل من قريش والاوس والخزرج وغيرهم من القبائل ، وكان يحترم القوميات المختلفة، وجاء في قول الرسول (ص) عن سلمان الفارسي "سلمان منّا أهل البيت " .

اذا كان لدينا مثل هذه الايديولوجية فما المشكلة في تفعيلها وتجديدها وازالة ما لحق بها من عوالق تتنافى اصلا مع روح ونصوص ادبيات القران والسنة وذلك بفتح باب الاجتهاد للفصل بالمستجدات حسب مقتضيات العصر ؟ هل علينا ان نخجل من قول هذه الحقيقة خوفا من اسلامفوبيا الصهاينة يهودا كانوا ام عربا ؟ المشكلة في هذه الايدولوجية انها تتعارض 180 درجة مع الايدولوجية

الصهيوبروتستانتية الرأسمالية ومن هنا يتم شن حرب الاجيال عليها بشراسة منذ مطلع هذا القرن. وشارك في تلك الحرب بعض الصهاينة من المسلمين والعرب .

للخروج مما نحن فيه من ذل وهوان يجب ان نحدد من نحن وبخلاف ذلك فإن كل المفكرين والكتّاب والمعلقين يطحنون في الهواء ولن تساعدنا من الخروج من المستنقع والذل الذي نعيشه هذه الايام . اما عمليات التشكيك فيمن يشاركون في عدائهم لرأسمالية الصهيوامريكية وراس جسرها في فلسطين حتى بحسن النية فمردود ذلك بعكس ما يطمحون له من تحرير القضية الفلسطينية والعربية فعلينا التحالف النّدي مع كل من تتقاطع مصالحه مع مصالحنا بدل التركيز على ما نظن من نقاط خلاف .

التحولات في العالم كله اليوم تحولات عميقة تشمل إعادة تكوين نظام عالمي جديد بما في ذلك من انعكاسات على الوطن العربي بشكل خاص ، ومع تغيير النظام العالمي الجديد ستتغير الوظائف للقيادات الهزيلة خصوصا وان محور المقاومة قد حدد هويته وان كيانات النظام العربي قد فقدت وظائفها فسقطت الاقنعة وشاهت الوجوه.

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل