" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ "هذه هي جوهر فلسفة الثقافة الاستهلاكية والتي تستنزف ثرواتنا .

***


تعثرت الزيادة المفاجئة في حجم الانتاج والتي كانت وليدة اختراعات الثورة الصناعية وما واكبها من تطوير أساليب وعمليات الانتاج الكمي الشامل ، لأن الاستهلاك لم يكن قادراً على مجاراة الانتاج . وهكذا وجدنا ان قواعد العرض والطلب التي تسود السوق أملت على اصحاب الشركات التي تم تسميتهم البارونات اللصوص إيجاد منافذ لطلب جديد لتصريف هذا الفائض من الانتاج . ولما كانت الزيادة في الانتاج زيادة ثورية ناجمة عن الثورة الصناعية ، فكان لابد ان تكون زيادة الطلب ثورية ايضاً ، مما اقتضى ضرورة تغيير الثقافة السائدة بأكملها والتي كانت سائدة آنئذ ونتج كساد اقتصادي كبير في تسعينات القرن التاسع عشر . ولذا فقد قامت الولايات المتحدة بالتوجه الى الاستعمار كوسيلة أولى لايجاد الطلب على الإنتاج الجديد كالحرب الامريكية الاسبانية واحتلت فيها الولايات المتحدة الممتلكات الأسبانية من كوبا وحتى الفلبين.



ولم تكن مثل حالات الكساد هذه ذات نتائج اقتصادية سيئة فحسب ، بل ونتج عنها اضطراب سياسي سيئ أيضاً . ولقد نشأ حزب ثالث نتيجة الاضطراب الاقتصادي والسياسي هو حزب الشعب الاميركي . ولقد نظر اعضاءه بازدراء الى الرأسماليين البارونات اللصوص والذين برزوا اثناء الثورة الصناعية . ولم ينظروا باحترام حتى الى ذلك الاقتصاد الذي كان يديره هؤلاء . وبدأ الحزب باكتساب واظهار شعبية في صفوف الجمهور وكسب الانتخابات لاختيار اعضاء الكونغرس . وهكذا فقد اضحت المشكلة لا تكمن في انتاج السلع بل في انتاج المستهلكين و أصبحت القضية الاقتصادية تهدد النظام الراسمالي نفسه.



ولزيادة الاستهلاك تم خلق القيم والثقافة الاستهلاكية. ولقد شرح المؤلف ويليام ليش (William Leach) كيف تعاضدت المؤسسات الأكاديمية مع رجال الأعمال لخلق ثقافة الرغبة وثقافة الاستهلاك فيقول في كتابه (أرض الرغبة) Land of Desire "ففي العقود التي أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية، بدأت الرأسمالية الأمريكية بإفراز ثقافة متميزة غير ذات صلة بالقيم التقليدية للأسرة والمجتمع، كما افتقرت هذه الثقافة إلى أية علاقة أو ارتباط بالدين أو المعتقدات مبتعدة عن التمسك بالتقاليد المرعية المقررة فضلاً عن تجاهلها للديمقراطية السياسية، كما أن الملامح الرئيسة لهذه الثقافة تتلخص في الاستملاك والاستهلاك كوسيلة لتحقيق السعادة مذهباً لهذه الثقافة الجديدة، وكذلك إضفاء طابع إطلاق الشهوات واعتبار قيمة النقود هي المقياس الحاسم لكافة القيم في المجتمع".



وقد لعب هيربرت هوفر Herbert Hoover بصفته وزير التجارة وبصفته رئيساً للولايات المتحدة ، دوراً رئيسياً في صياغة التحالف بين رجالات الاعمال والحكومة . وقد ارتضت الحكومة دورها كمساعد ومقدم للخدمات الى الشركات الكبرى ورجال الاعمال الكبار، واصبح هؤلاء هم الشريك الرئيسي في هذاالتحالف .



لقد كان وصف هوفر للحياة في قرية اميركية صغيرة قبل بدء ثقافة الاستهلاك ، في غاية التعبير لان هذا الوصف جاء من رجل بذل جهوداً مضنية لخلق ثقافة الاستهلاك . وقد ألقي هذا الخطاب خلال حملته الانتخابية عام 1928 للرئاسة الاميركية . وكان يقوم بزيارة لقريته ومسقط رأسه ويست برانش West Branch بولاية ايوا Iowa وقال :"في الثمانينات من القرن الماضي كان الناس يتقاسمون المسرات وكانت القرية تتمتع بالاكتفاء الذاتي حيث كانت تزرع القمح والذرة وتطحنها في مطاحنها ، وكانت مكتفية ذاتياً فيما يتعلق باللحوم والمنسوجات والاقمشة . وكنا نقوم بأنفسنا بإصلاح المحركات وكنا نحصل على الوقود من الخشب . كما شيدنا البنايـات وصنعنا الصابون



اللازم لنا وحفظنا الفواكه وجففناها وانتجنا الخضروات . وكان الشيء القليل فقط من لوازم العائلة يتم شراؤه من الخارج" . وقال انه في طفولته لم يكن الفقر معروفاً في قريته ويست برانش ، “ وكان الناس فرحين دائماً يشعرون بالسعادة ولم يكونوا رهناً للتقلبات والنكسات التي تلم ببورصة شيكاغو التي تسببت في الايام الاخيرة في شطب 50% من ايراداتهم على ايدي المضاربين . وهكذا فقد انتقل الناس من الراحة والاطمئنان الى القلق والهموم بفضل تلك الثقافة الاستهلاكية الجديدة . “



وقد تمت الاشادة بالاستهلاك واعلائه ليرتقي الى مرتبة الديانة وليحل مكانها واصبحت روح هذا النظام الاستهلاكي متمثلة في اطلاق العنان للرغبات والنـزوات البشرية . وكانت عقيدة الاستهلاك الجديدة هذه مناهضة للدين ، حيث ان كافة الاديان والشرائع تحث على كبح جماح الرغبات والسيطرة عليها ، في حين أن الثقافة الاستهلاكية تعتمد على الطلاق الشهوات والغرائز كما كشفه مازور Mazur ان ليس للشهوات والرغبة حدود فكلما أطلقت واحدة انتجت أخرى مما يجعل الاستهلاك بلا حدود. لو وجدنا مبررا للولايات المتحدة لإطلاق تلك الثقافة فهي تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع ولكن أين ذلك من الدول النامية ونحن منها. أتسائل هنا هل حققت لنا ثقافة الاستهلاك اي سعادة ام مزيدا من القلق ؟ وماذا لو تم اعادة صياغة ثقافتنا الاستهلاكية لكي تتوافق مع مثلنا وحضارتنا و قدراتنا الأسرية والوطنية ، بل وسن القوانين لتحقيق ذلك وتسخير أدوات الإعلام لتثقيف الجماهير بدلا من نشر ثقافة "الطشت اللي ... والسح السح امبو".سينتج عن ذلك توفير المليارات من الدولارات والعملة الصعبة وتعيش الناس ضمن امكانياتها.



***

أداء حكومي متميز :


المديح والهجاء ليست مهنتي ولكن علينا ان نعترف بالحقائق ونقول لمن احسن احسنت.

كان الاداء الاردني متميزا في معالجته لازمة كورونا حتى على من هم اكثر منه مالاً وعدداً وامكانيات .اثبتت الحكومة الحالية وضمن مساحة الحركة التي تستطيع ان تتحرك بها حكومات الدول النامية ان ادائها الاداري كان مميزا في اكثر جوانبه . كان ذلك واضحا ومنسقا في معالجة هذه الأزمة بدءًا بالطاقم الصحي باكمله ، وبقية الوزارات وليس انتهاء بحِزَم البنك المركزي ووزارة المالية والضمان الاجتماعي وبشكل فاق ما قدمته كثير من البلدان غربا وشرقا بالرغم من امكانياتها . اما ما صرح به وزير المالية بأن موارد الدولة من الضرائب قد انخفض وان دول النفط لن تقدم للأردن اي مساعدات مالية (بل بعضها بدء بالاقتراض ) فهذا يجعل وصول الاردن ليصبح سيد نفسه اقتصاديا وسياسيا ضرورة قصوى لا ترفا ، وهو قادر على ذلك .وإذا كانت الولايات المتحدة أيضا أعربت عن نيتها عدم مساعدة الأردن في أزمته، واذا كان الصديق في وقت الضيق ،فهؤلاء اذن ليسوا أصدقاء ولا حلفاء .وإذا كان الوصول الى الاستقلال الذاتي بتوليد كامل طاقتنا الكهربائية من مواردنا المحلية الأردنية من أولوياتنا فانا علـى يقين ان الموارد المادية والبشرية الأردنية لتحقيق هدا الهدف متاحة و خصوصا في وزارة الطاقة اليوم وعلـي رأسها وزيرة ابنة هذا القطاع وهي مهندسة صاحبة خبرة وكفاءة تستطيع مع طاقمها ان تضع الخطط الكفيلة للوصول الى الهدف المنشود خصوصا ان فاتورة الطاقة بالأردن وصلت من عهد ليس ببعيد الى اكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا رقم فلكي غير مسبوق في اقتصادات الأمم. وبإمكاننا أن نصل إلى الإكتفاء الذاتي من المدخلات المحلية .المشكلة في العقود المجحفة الموقعة سابقًا لإنتاج الطاقة الكهربائية من المصادر المحلية هي ليست مشكلة مصدر الطاقة المحلية تلك و إنما هي مشكلة من وقع تلك العقود.وعلينا الا نكون كمن يمزق الرسالة قبل قراءتها لانه لا يحب حاملها. ومن البديهي أن الوصول إلى توليد كامل طاقتنا الكهربائية من المصادر المحلية يحتاج إلى تعديلات في البنية التحتية لقطاع الكهرباء وشبكته لتتناسب مع متطلبات الطاقة الجديدة من تخزين وخلافه وذلك ضمن خطة زمنية محددة. وبالمناسبة فقد كان استهلاك الاردن من الكهرباء في شهر مارس/ابريل 1500 ميغاوات اي مساويا لما يتم توليده اليوم من الطاقة المتجددة اي 1500 ميغاوات ، في حين ان الاستهلاك عادة بمعدل 4500 ميغاوات وهذا هو دلالة على مدى تأثر الاقتصاد الأردني بازمة كورونا.

***



لتحقيق الاكتفاء نحن بحاجة للانتماء :


اعجبني ما كتبه احد المعلقين على مقالي السابق اذ كتب:" لو لم أكن اردنياً، لوددت أن أكون، لن تكون فلسطين بدون الأردن، والعكس صحيح" صدق من قال ذلك ، وتعليقي على ذلك ان أعداء الأمة لا يمكنهم تحقيق أهدافهم دون تآمر نفر من أهل هذه الأمة يبيعون انفسهم وأوطانهم وهؤلاء هم الفاسدون. اما بالنسبة إلى تكامل فلسطين والأردن فذلك هو او يجب ان يكون من البديهيات .



فبالنسبة لي لم يكن امر فصل الضفتين سوى ان أجنبيين لئيمين من الفرنجة من وراء البحار اسم احدهما سايكس واسم الاخر بيكو رسما خطا فوق نهر اسمه نهر الاردن . كانت ضفتيه وحدة واحدة على مدى التاريخ . وفي اخر 500 سنة كانت التقسيمات الادارية لضفتي الاردن بحيث كان شمال الضفة الشرقية وشمال الضفة الغربية سنجقاً اداريا واحدا ، ووسط الضفتين نابلس والسلط سنجقاً اخر ، وجنوب فلسطين وجنوب شرق الاردن سنجقا اخر . جاؤوا لنا بقطعة قماش لونها احمر واسود وابيض واخضر وقالوا هذه لضفة النهر الغربية وجاؤوا بقطعة قماش اخرى ورسموا عليها نفس الألوان واضافوا عليها نجمة وقالوا هذه للضفة الشرقية . اثناء فترة استعمارهم المباشر حاولوا في مناهجهم الدراسية ان يعلموا الأجيال بأن هذه الضفة أولا في شرق النهر وان تلك الضفة أولا في غربه وهم لا يريدون خيرا لا لهذه ولا لتلك بل يريدونهما عاشرا واخرا . لم تنطلي تلك الخدعة على احد الا على قلة قليلة ضالة ندعو الله ان يهديها.



· هذا البلد صغير في حجمه وامكانياته كبير في معناه وإنسانه وقدراته . حاكمه جاء اهله من مكة يوم كان العَرَب يقولون بلاد العُرب اوطاني، ورئيس وزرائه اليوم جاء والده من الشام ووالدته من فلسطين. وهذا البلد يجسد بالرغم من صغر حجمه طموحات امة واحدة اراد لها اعداؤها ان تكون امما شتى . وهو بلد قد فتح ذراعيه لكل من لجا اليه معبراً عن حقيقة اننا شعب من امة واحدة وضع الحاقدون المستعمرون الحدود على خرائطها لنهب ثرواتها وهدم حضارتها ولكن ذلك لن يدوم .



· عِشتُ في قارات الكرة الارضية المختلفة من اطرافها . في الولايات المتحدة عشت في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها ، وعشت في اوروبا ، وعشت في افريقيا وعشت في العديد من اقطار اسيا. وبالرغم من ان الكثير من الخيارات كانت متاحة لي، لكني لم و لن اقبل عن هذا البلد الواحد شرقيه وغربيه بديلا، فهذا البلد بلدي وله ضفتان كما يقول شعار حزب الليكود الحاكم :هذه الضفة لنا (نحن) وكذلك الاخرى من النهر الى البحر . وهكذا فقد توصلت الى ما توصلتَ اليه ايها الاخ المعلق الكريم ، مع تحياتي .


مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل