ما يحدث اليوم من اضطرابات وانقسامات عميقة نحو اليمين واليسار في المجتمعات الرأسمالية على ضفتي الاطلسي هو (ثورة) ضد نظام(اقطاعي مالي- سياسي) مأزوم منتهي الصلاحية .
كانت افتتاحية كتاب البروفيسور ليستر سي ثورو الاستاذ بإحدى اعرق الجامعات الامريكية (MIT) لكتابه (مستقبل الرأسمالية): “إن الأنظمة المنافسة للنظام الرأسمالي من فاشية واشتراكية وشيوعية قد انهارت جميعها. ولكن، بالرغم من أن المنافسين قد أصبحوا طي الكتمان في كتب التاريخ فإن شيئاً ما يبدو وكأنه يهز أركان النظام." ، كما كتب الدكتور ديل أركر Dale Archer مقالين في مجلة فوربس Forbes الامريكية المحافظة بعنوان :" فروقات الثروة: هل ستقود الى ثورة ؟"
جاء في المقال الاول بتاريخ 4/9/2013 : " كل الكلام عن تفاوت الثروة في السنتين الاخيرتين يستحضر السؤال : هل ستقود فروقات الثروة هذه الى ثورة ؟... ان اغنى واحد بالمئة يمتلكون 40 بالمئة من ثروة الامة المقدرة بـ 54 تريليون دولار. هذا يترك فقط 7 بالمئة لثمانين بالمئة من المواطنين . ولنضعها بشكل آخر فإن اغنى 400 امريكي يمتلكون أكثر من ما يمتلكه 150 مليون امريكي أي أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة ..." ويضيف في مقاله الثاني بتاريخ 11/9/2013 :" يعيش 47 مليون أمريكي على اعانات الدولة للحصول على الاكل (Food Stamps) وحسب احصائيات وزارة الزراعة الاخيرة فإن 15 بالمئة من الشعب الامريكي يمكن اعتبارهم غير واثقين من أين سيحصلون على وجبة غذائهم التالية .... ولدولة من مصاف الدول المتقدمة فهذا رقم مخيف."
***
يحاول اصحاب النظام بديموغاجية اعلامهم تحويل الثورة ضد نظامهم وكأنه ثورة ضد الديمقراطية . ويذهب بعض الكتّاب من أصحاب النوايا الحسنة ان الجمهورية الامريكية قد تأسست على أسس ديمقراطية لأن المجتمع الامريكي كان مجتمعاً متجانساً من البيض ، وهذا ليس صحيحاً . ففي فيرجينيا والتي كانت اكبر ( الولايات) مساحة وكثافة سكان كانت نسبة الخدم وأصحاب الاعمال الوضيعة من البيض تساوي 4 أضعافهم من السود قبل 100 سنة من الثورة الامريكية ، وانعكست النسبة بالتدريج قُبيل الثورة والتي قادها الاقطاعيون اصحاب المزارع الكبرى واصحاب رؤوس الاموال ومنهم جورج واشنطن. وكان أغلبهم من الماسون . كتب الدكتور جون روبنسون في كتابه المعنون: " أخوة الدم ..الأسرار المفقودة للماسونية :" عندما أدى جورج واشنطن، الماسوني، يمين القسم كرئيس للولايات المتحدة، اختار أن يفعل ذلك مستخدماً نسخة من الإنجيل تمت استعارتها من المحفل الماسوني في مدينة نيويورك، وتمت مراسم القسم تحت إشراف المستشار روبرت ليفنغستون، وهو ماسوني آخر كان يحظى وقتها بمرتبة السيد العظيم على سلم المناصب في الحركة." كما كان 41 جنرال من جيش جورج واشنطن من مجموع 81 جنرال من الماسون حسب موقع ( SCHOTTISH RITE OF FREEMASONRY ) . بالاضافة الى عدم تجانس المجتمع فقد قامت ثورات عديدة من طبقة الخدم والعبيد والفقراء خلال سنوات ما قبل الثورة ، وقد حرق هؤلاء عاصمة فرجينيا عن بكرة أبيها في احدى تلك الثورات .
حسب المؤرخ البروفيسور هوارد زن استاذ التاريخ السابق في جامعة بوسطن ، و حسب المؤرخ البروفيسور ويليام بولك استاذ التاريخ السابق في جامعة هارفرد فإن الاقطاعيين وأصحاب رؤوس الاموال قاموا بثورتهم لأن حكام المستعمرات البريطانية لم يقوموا باحتواء الثورات والقلاقل المتصاعدة فرأو ان يقوموا بأنفسهم بالحكم مما يعطيهم امتيازات اخرى خصوصاً تملّك الاراضي الشاسعة واصدار العملات الخاصة بهم . واذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه فلقد كانت آخر هموم كتبة الدستور الامريكي
الذي اعطى حق الانتخاب بمجلس النواب لاصحاب المزارع والملّاكين فقط واستثنى غير الملاك سواء من البيض أو السود على حد سواء من حق الانتخاب ، كما أعطوا حقهم تعيين اعضاء مجلس الشيوخ والذي يملك معظم الصلاحيات الهامة بحيث كان اعضاؤه من الاقطاعيين واصحاب رأس المال . وعندما اختلف كتبة الدستور عن عدد الممثلين لكل ولاية بنسبة عدد سكانها اتفقوا في النهاية اعتبار الرجل الاسود بثلاثة اخماس رجل !
أما الحرب الاهلية فحسب المؤرخين المذكورين أعلاه فقد كانت محاولة الشمال الصناعي استقطاب العبيد من مزارع الولايات الجنوبية والتي اعتبرها اصحاب العبيد سرقة لأموالهم باعتبارهم العبيد جزءاً لا يتجزأ من املاكهم في مزارعهم دفعوا ثمنهم عداً ونقداً بمليارات الدولارات ، أراد اهل الشمال الصناعي باستقطابهم تحت أكذوبة تحريرهم . وبالمناسبة كانت التفرقة العنصرية بين الاسود والابيض على اشدها حين وصولي للولايات المتحدة منتصف خمسينات القرن الماضي بعد حوالي تسعين سنة من الحرب الاهلية . نحن نعرف مهارة اصحاب النظام الرأسمالي في تزيين وتجميل وتزييف الحقائق والتاريخ .
***
بقيت الولايات المتحدة تتوسع غرباً الى ان وصلت من المحيط الى المحيط كانت خلالها تُبيد سكان البلاد الاصليين . كانت البلاد غنية بثرواتها الطبيعية وأراضيها الزراعية وما كان ينقصها هو القوى البشرية والتي قاموا بحلّ مشكلتها في الجنوب عن طريق استيراد العبيد وفي الشمال عن طريق الهجرة باستيراد الاوروبيين البيض . وبعد الثورة الصناعية تم ادخال المرأة الى سوق العمل للنقص الشديد في العمالة وأعطيت بعض حقوقها بالتدريج .
يمكن تقسيم التاريخ الامريكي الى فترة نمو مستمر منذ تاريخ الاستقلال وحتى سنة 1970 . كان الاقتصاد الامريكي خلال هذه الفترة يواجه أزمات ودورات اقتصادية ( Bust and Boom) كان اكبرها الكساد الكبير 1929 والذي دام اكثر من 10 سنوات وكاد يطيح بالرأسمالية برمتها لولا أن خلق اصحاب النظام الرأسمالي الحرب العالمية الثانية والتي كان نتيجتها مقتل حوالي 60 مليون انسان .
خلال الفترة ما قبل 1970 كان هناك نمو كبير للاقتصاد الامريكي وخصوصاً ما بين 1945 -1970 حيث كان الاقتصاد للدول الصناعية في غرب اوروبا واليابان مدمراً بالكامل . وكان هناك تحسن في مستوى المعيشة للامريكيين بشكل عام جيلاً بعد جيل، الا ان الامر تغير آخر 50 سنة ذلك لأن النقص في سوق العمالة الذي كان يستوجب استيرادها انقلب ليصبح فائضاً نتيجة انتقال الاعمال الى الخارج كانتقال صناعة الملابس الى بنغلادش حيث كان الراتب الشهري للعامل 38 دولار وهو ما يقابل اقل من اجور عامل لثلاث ساعات في كاليفورنيا مثلاً اليوم . كذلك كان الفائض بالعمالة نتيجة الكفاءة الناتجة عن تكنولوجيا المعلومات والحاسوب الجديدة، بالاضافة الى دخول المرأة بكثافة الى سوق العمل لاضطرار الاسرة ان يصبح بها اكثر من شخص عامل لتغطية نفقات المعيشة في وقت بقيت الاجور ثابتة . بل ولتغطية النفقات في ظل عدم زيادة الاجور اضطر الشعب العامل للعمل الاضافي بحيث اصبحت ساعات العمل للامريكي تزيد ب 20% اليوم عما كانت عليه قبل 1970 . اصبح الامريكي منهكاً. ومما زاد من معاناته الازمات الاقتصادية والمالية التي كانت نتيجة نظام الكازينو المالي الجديد الذي جعل من المال سلعة للمضاربة لا يدخل في حلقة الانتاج ، فجاءت كل ازمة لتلعن من قبلها وبفترات تتناقص المدة بين ازمة و اخرى مثل ازمات 1988 ، 2000 و 2008 والتي افقدت ملايين الامريكيين بيوتهم والتي تم معالجتها بضخ الاموال الى البنوك التي سببت الازمة ودَفًعَ ثمن الازمة عموم الشعب الامريكي .
يمكن اعتبار ازمة 2008 كالشعرة التي كسرت ظهر البعير وبالرغم من ضخ تريليونات الدولارات منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم فالازمة تتعمق لأن المشكلة هي أزمة نظام لا يستطيع حل الازمات الذي تسبب هو نفسه بها ، فالحل لن يكون سوى من خارجه . بدأت عمليات التململ والاحتجاجات فقامت حركة احتلوا ( وول ستريت ) حيث حدد المحتجون ان شارع المال وبنوكه واصحابها هم سبب المشكلة . قامت سنة 2010 اكبر المظاهرات في تاريخ اوروبا تطالب الحكومات بعدم قبول برامج التقشف لمعالجة اثار ازمة 2008 باعتبار انهم قد دفعوا ثمن ممارسات وول ستريت وطالبوا بعدم تبني فرامانات الرأسمالية المتوحشة بالغاء حقوق وامتيازات الطبقة العاملة الاوروبية . بترتيب مسبق بين نقابات العمال ومؤسسات المجتمع المدني قامت مظاهرات في دول اوروبا الغربية خاصة فخرج 100 الف متظاهر في بروكسل و 3 ملايين في فرنسا وهو رقم غير مسبوق ، وتعطلت الاعمال في اسبانيا نتيجة حجم تلك المظاهرات . كذلك جاءت الانتخابات على جانبي الاطلسي باليمين المتطرف الذي يزداد قوة سنة بعد سنة . وكذلك جاء بالبيسار في الولايات المتحدة مع ظاهرة السنتاتور ساندرز الاشتراكي والذي حظي بالرقم واحد قبل هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وجاء باليمين المتطرف الذي اختطفه دونالد ترامب ورأينا نتائجه في السنوات الاربع الماضية . وعملية الانتفاضة او الثورة ما زالت قائمة.
***
أما بعد :
فالذي يجري اليوم على ضفتي الاطلسي هو انهيار النظام الرأسمالي الذي فقد صلاحيته ولا يمكن اصلاحه من داخله حيث لا يُصلح العطار ما افسد الدهر .
أكذوبة الديمقراطية ( اي حكم الشعب ) تتنافى اساسا مع ألف باء الرأسمالية . ولعلّ احد اقطابها جورج سوروس قد كتب ذلك بوضوح في كتابه عن أزمة الرأسمالية والتي قال أنها كانت قاب قوسين أو أدنى عن الانهيار بعد ازمة جنوب شرق آسيا اذ كتب شيخ الرأسماليين جورج سورس في كتابه أزمة الرأسمالية العالمية The Crisis of Global Capitalism : “الرأسمالية والديمقراطية تتبعان مبادىء مختلفة ومتنافرة تمامًا. إن أهداف هذين المبدأين مختلفة : ففي الرأسمالية الغاية هي الثروة، أما في الديمقراطية فالغاية هي السلطة السياسية. كما أن معايير هذين المبدأين مختلفة: ففي الرأسمالية يعتبر المال هو وحدة القياس، أما في الديمقراطية فهي صوت المواطن. إن مصالح هذين المبدأين مختلفة أيضـًا: ففي الرأسمالية تعتبر المصالح الشخصية الخاصة هي الأهم، أما في الديمقراطية فلا شيء فوق صوت المصلحة العامة. وفي الولايات المتحدة، يتمثل هذا التوتر بين الرأسمالية والديمقراطية في الصراع الأزلي بين بارونات المال والشعب”
وقطعت جهيزة قول كل خطيب !
مستشار ومؤلف وباحث