ما هي الثقافة الاسلامية التي عجزت امامها ابشع المستعمرين القدماء والجدد.. لكن عجزت هي بالذات عن اصلاح امورنا.. وهل هناك اسلام واحد او اسلام امريكي وآخر داعشي و..و؟ وهل اثر الجغرافيا أكثر من اثر الإيديولوجيا؟ ولماذا فكرت بالتوقف عن الكتابة؟

أرجو أن أبين هنا أنه كان بودي أن أجيب على تساؤل أو تعليقات الاخوة والاخوات المعلقين والمعلقات لكن ظروفي لا تسمح بذلك . انخفضت قوة بصري الى 5-10% من قوتها مما لا يمكنني من طباعة اي رد . نتيجة الى ذلك فكرت اكثر من مرة في التوقف عن الكتابة. تقوم سكرتيرتي بطباعة ما امليه بخط كبير كل كلمتين أو ثلاثة في سطر فأي كتابة أو تعليق محصور في وقت ضيق اثناء النهار. الا ان قبحات الاحداث في عالمنا العربي يقودني الى الاستمرار ولو الى حين . لذلك أود القول أن الكثير من المعلقين والمعلقات هم من اصحاب الفكر والثقافة العالية والحوار معهم يُثري موضوع البحث. وأنا أحييهم جميعاً فرداً فردا سواء مع من اتفق مع ما أكتب أو من اختلف .

كانت اكثر التعليقات على مقالي الاخير بتاريخ 10/2/2019 هي هامة الا أن مساحة هذا المقال لا تتسع لاكثر من واحد أو اثنين منها.

الأخ الاستاذ (المغترب) هو ذو ثقافة وخبرة مميزتين وواضحتين كما أرى في تعليقاته . ويسعدني أن اتحاور معه بإعتبار هذا الحوار عصفاً مع التأكيد بأن الخلاف لا يفسد في الود قضية . جاء في تعليق الاخ المغترب :

“استأذن الدكتور عبد الحي زلوم في مخالفته بخصوص محاربه الغرب للإسلام لان اسلام اليوم هو ما يخدم مخططاتهم في التجهيل والقمع … والغرب يخشى من العلمانيه في الدول المسلمه وقام بربطها في مناهجنا زورا بالإلحاد وحارب دعاه التجديد والتعدديه و كل توجه ثقافي او انفتاح عقلاني بواسطه احياء الحركه الوهابيه القمعيه وسقايه حركه الاخوان المسلمين الاقصاءيه ، ولم يكتفي بتسليط الحركتين على البلدان الاسلاميه …. لقد تولد عندي قناعه بان الجغرافيا هي الجامع الاول قبل العرق او المعتقد وان سكان اي منطقه ايا كان دينهم او عرقهم او مذهبهم يخاصمون او يناصرون اهل مناطق حغرافيه اخرى … الاسلام الوهابي الاخواني المهيمن بدعم غربي يجب إقصاؤه اولا وان يتغير الاسلام المتداول جذريا بمفهومه وأسلوبه وطرحه لاننا أصبحنا مكبلين بالمظهر واتقان الطقوس بدل الجوهر ونقاء النفوس “

أُجيب الاستاذ المغترب أن (اسلام اليوم) كما أسماه هو ليس اسلاماً . هناك اليوم اسلام امريكي واسلام انجليزي واسلام وهابي… الخ لكن الحقيقة ان هناك اسلام واحد قال عنه أحد معتنقيه الاوروبيين الجدد أنه شكر الله لأنه عرف الاسلام قبل ان يتعرف على المسلمين! الاسلام الذي اعرفه هو ما وصفته الكاتبة البريطانية كارين ارمتسرونغ (الراهبة السابقة) حيثكتبت :” ولقد كان العدل الاجتماعي هو المفهوم الأكثر أهمية في الإسلام. ولقد أمـِرَ المسلمون كأولى مهامهم بناء أمة تتميز فيما بينها بالرحمة والتي يسودها توزيع عادل للثروة. إن هذا هو الأكثر أهمية من الطقوس الأخرى”. سمي لي دولة واحدة في ما يسمى بالعالم الاسلامي تتوافق مع هذا المفهوم؟

لا اختلف مع الاخ المغترب بأن الاسلام السائد هو اسلام امريكاني يتناقض تماماً مع كل مبادئ الاسلام.

كما كتبت كارين ارمتسرونغ ليس هناك اسلام سياسي ولا علماني. اذا كان تطبيق العدالة وهو اساس الملك يحتاج الى ادوات كالسياسة لتطبيقها فالسياسة هي جزء لا يتجزء من الاسلام لتطبيق العدل . كتبت كارين ارمتسرونغ:”في الغربالمعاصر، قمنا بوضع حدود فاصلة بين الدين وبين السياسة. أما في الإسلام، فإن المسلمين فقد أوكل لهم كتابهم المقدس،القرآن، مهمة تاريخية تتمثل في إيجاد مجتمع عادل متساو في كل أركانه، بحيث يعامل الضعفاء بكل احترام، وسيعملبناؤهم لمجتمع كهذا واستقرارهم فيه على منحهم صلة حميمة بكل ما هو مقدس في حياتهم لأنهم سيعيشون وفقاً لوصيتهوإرادته. وعلى المسلم أن يعود إلى قراءة التاريخ، وهذا يعني أن شؤون الدولة لم تكن معزولة عن الروحانيات، ولكنهاكانت تمثل مادة العقيدة نفسها. ” وتضيف: “إذا لم ترتقِ مؤسسات الدولة إلى مستوى المثل العليا والغايات التي يريدهاالقرآن، وإذا كان قادتهم السياسيون سيئين أو استغلاليين أو إذا كان مجتمعهم يلاقي الذل والهوان على أيدي أعداءيتظاهرون بالتدين، فإن للإنسان المسلم أن يشعر أن إيمانه بالغاية النهائية من الحياة وقيمها محفوف بالمخاطر”. من هذا التعريف يتبين أن الاسلام هو الإيديولوجيا أولاً وهذا ليس من اختراعي .

كتبت في مقالات سابقة تعريف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD ) عن الفروقات بين الإيديولوجيا الاسلامية والاشتراكية والراسمالية : “تختلف المفاهيم الاسلامية عن الرأسمالية في أنها تعارض كنز الثروات، وعن الاشتراكية من حيث أنها لا تنكر حقوق الملكية، بما فيها ملكية وسائل الإنتاج…… ولا بد لحقوق الأفراد أن تكون متوازنة مع مصالح المجتمع بأكمله على نحو متساوٍ”. الإيديولوجيات الثلاثة المذكورة هي عابرةٌ للجغرافيا والقوميات فالصراع كان وما زال صراع حضارات وليس جغرافيات. كان الاتحاد السوفياتي يتكون ويتعايش مع قوميات عديدة ولنتذكر ما قاله جورج دبليو بوش أن النظام الرأسمالي الامريكي (صالحٌ لكل زمان ومكان). كذلك الاسلام يقول وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ ولا فرق لعربي على اعجمي الا بالتقوى .

نحن لا نتكلم عن اسلام امريكاني يقول فقهاءه بأن الارض مسطحة وأن دوران الارض اكذوبة كبرى بل نتكلم عن اسلام يقول (اطلبوا العلم ولو في الصين) واسلام يحترم الاخر ويقول (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ) ويقول لكم دينكم ولي دين.

في امريكا (العلمانية) عدد الصهاينة المسيحين يزيد عن 70 مليون نسمة هم من يقرروا من يصل الى البيت الابيض. اصحاب النظام الامريكي الذين يسمون أنفسهم بألهة المال هم لا دينيون لكنهم يتفقون مع مقولة كارل ماركس بأن الدين افيون الشعوب وهم يخدرون شعوبهم بمخدر بالمجان. الاسلام الامريكي هو لهذا الغرض نفسه وهو لتقتيل والتجهيل وهو ليس من الاسم في شيء. وفي امريكا العلمانية فإن جميع رؤساء الولايات المتحدة الامريكية من جورج واشنطن وحتى دونالد ترامب هم من البورتستنت عدا استثناء واحد كان جون كيندي والذي تم اغتياله في منتصف ولايته!

لا نحتاج الى كثير من العناء لاثبات ان الغرب يعاني من الاسلامفوبيا وانه يهاجم الاسلام كون ايدولوجيته تختلف جوهرياً مع ايدولوجيته وتقف عائقاً في طريق هيمنته وسلبه لثرواته وليس لان طقوسه الدينية تختلف مع طقوسه. وكان مدير الCIA الاسبق جيمس وولسي قد قال في محاضرة له في جامعة

كاليفورنيا في لوس انجلوس سنة 2003 بأن الحروب التي بداتها الولايات المتحدة بغزو العراق هي حروب ضد العالم الاسلامي وانها حروب اجيال .

نعود ثانية الى كارين ارمسترونغ والتي كتبت قبل عشر سنوات من تسمية جورج دبليو بوش حروبه على منطقتنا بالصليبية :” يبدو الآن أن الحرب الباردة ضد الإسلام ستحل محل الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي. ويربط المسلموناليوم الإمبريالية الغربية والحملات التبشيرية المسيحية بالصليبيين، وهم ليسوا على خطأ فيما ذهبوا إليه. فعندما وصلالجنرال اللنبي (Allenby) إلى القدس عام 1917، أعلن أن الحملات الصليبية قد استكملت، وعندما وصل الفرنسيون إلىدمشق، سار قائدهم في موكب إلى ضريح صلاح الدين في المسجد الكبير وصرخ قائلاً بالفرنسية ما معناه بالعربية ( ياصلاح الدين – لقد عدنا)”.

لو اردت أن أقارن بين تأثير الجغرافيا والإيديولوجيا لقلت أنني احترم البروفيسور اليهودي ناعوم تشومسكي أو اليهودي شمعون ليفي اللذان يناهضان الاستعمار الاستيطاني في فلسطين اكثر من المطبعين العرب من المحيط الى الخليج بما فيهم وعاظ السلاطين . اختم قولي أني لا انتمي الى أي تنظيم اسلامي أو غير اسلامي .وان ما اسلفت هو الاسلام الذي اعرفه.

التعليق الثاني الذي وجدته مثيراً ومهماً كان من اخ بتوقيع (من الجزائر) جاء فيه ” شكرا استاذنا على مقالاتك السديدة، والتي نراها كل مرة تقارب الهدف اكثر من قبل.

لقد فككت استاذنا معظلة علاقتنا بالاخر كالعادة، واكتفيت بالقاء اللوم على السفهاء منا والرويبضة.

نرجو منك، ان توجه اهتماماتك الينا، إذ المصيبة، كما ارى، هي فينا، وهي اعقد من ان نكتفي باللوم. نعم، اسلامنا هو الذي اعطانا المناعة لمقاومة الليبيرالية المتوحشة. لكن في نفس الوقت، وهنا التناقض الكبير، لم يصلح من شأننا. اجدادنا بالجزائر قاوموا المستدمر الى حد الشبه الاندثار، هو الاسلام الذي فعلها. لكن 60 سنة بعد الاستقلال لازلنا شبه مشلولين” ويضيف الاخ من الجزائر:”ما اريد ان نطلبه منكم استاذنا، ان توجهوا اهتمامتكم، الى ماهية الثقافة الاسلامية التي عجزت امامها ابشع المستعمرين القدماء والجدد، لكن عجزت هي بالذات عن اصلاح امورنا.”

السؤال هامٌ وخطير وربما يحتاج الى مقال قادم ، لكني الان اترك الاخوة والاخوات القراء بأن يجيبوا عليه ففي ذلك عصفٌ فكريٌ مفيد.

اخيراً ، لا يوجد في عالمنا دولة واحدة يمكن ان نسميها دولة اسلامية تعيش بايديولوجيا الاسلام كما اسلفت . بل ولربما تمّ تسمية داعش بالدولة الاسلامية كجزء من محاربة ايديولوجيا الاسلام التي لا تقر بكافة اعمال الارهاب ولا تقر بهدم الكنائس أو معابد الاخرين الدينية . رفض عمر بن الخطاب أن يصلي في كنيسة القيامة حين جاء وقت الصلاة ولم يقبل دعوة راعي الكنيسة ان يصلي فيها خوفاً من ان يقوم الجهلة بتحويلها الى مسجد.

ان كافة الاديان السماوية تتشارك في مبادئ سامية واحدة كالعدل اساس الملك ومحاربة الظلم والتسامح . بالنسبة لي فبابا الفاتيكان الذي دعى الى وقف مجزرة اليمن وهو في الجزيرة العربية او الى تغيير النظام الرأسمالي الظالم وهو في امريكا اللاتينية هو اشرف الف مرة من وعاظ السلاطين ومشايخهم .

مستشار ومؤلف وباحث

تنزيل