النظام الرسمي العربي يصارع سكرات الموت ومما يزيد مشاكله ان مشغليه في الغرب يعانون من أزمة نظام عميقة تهز أركانه.. والترابط العضوي بين كيان الاحتلال والنظام الرسمي العربي يؤكد أن نهاية هذا الكيان محسومة
التغيير هو الثابت الوحيد في التاريخ . الا ان سرعة التغيير هذه الايام تسير بطريقة غير مسبوقه.
عاشت الامبراطورية العثمانية 5 قرون وعاشت الامبراطورية البريطانية اقل من ذلك بقليل . الا أن تسارع نبض الحياة في كافة مرافقها بعد الثورة الصناعية والمعلوماتية غير كل شيء . فإمبراطورية الاتحاد السوفياتي انهارت خلال سبعين سنة بالرغم من ترسانتها النووية. واليوم كتبتُ وأكرر بأن الامبراطورية الامريكية تعاني اليوم من أزمة نظام عميقة كما بينتُ في كتابي “ازمة نظام – العولمة والرأسمالية في مأزق” .
تم وصف أزمة سنة 2008 التي كادت أن تطيح بالنظام الرأسمالي برمته بأنها أزمة مالية، لكن حقيقة الامر انها كانت أزمة اقتصادية سياسية بل واجتماعية نتيجة مبادئ العولمة والاحادية والذي ثبت فشلهما بأسرع مما توقع الكثيرون . ومن اثار العولمة على المجتمع الامريكي كان زيادة تهميش الطبقة الوسطى والسفلى بحيث أصبحت العولمة تعمل لصالح فئة الواحد بالمئة في الولايات المتحدة على حساب بقية فئات المجتمع . قامت حركات احتجاج مثل (احتلو وول ستريت) وغيرها. افرزت العولمة في الداخل الامريكي 400فرد يمتلكون اكثر مما يمتلكه 150 مليون امريكي . انتفضت هذه الفئات المهمشة بشعارات ضد الدولة العميقة اي السلطة الدائمة في الولايات المتحدة . جاءت الدولة العميقة بباراك اوباما وكان شعار حملته الانتخابية (التغيير) لكنه لم يغير شيئاً . ثم جاءت انتخابات 2017 حيث قدمت الدولة العميقة دونالد ترامب والذي كان يطالب بالتغيير ويجاهر ضد العولمة لكسب اصوات المهمشين و الصهاينة المسيحين واليهود وجاءت بهيلاري كلينتون والمعروفة بأنها ابنة المؤسسة الدائمة . وبدأ ترامب بخطوات عملية تعاكس الف باء مبادئ العولمة كفرض الرسوم على المستوردات الاجنبية والحمائية مما سبب شرخاً بينه وبين حلفاء الولايات المتحدة بل وشركاءها التجاريين كالصين. فأصبح النظام الاقتصادي والسياسي هائم على وجهه بين العولمة وضدها .
في العقيدة الرأسمالية المتعولمة وضعت الولايات المتحدة أحاديتها كأمرٍ مفروض منه و فرضت قواعد اقتصادها المتوحش على الاخرين في اوروبا . نتج عن محاولة تطبيق النموذج الامريكي في اوروبا الغربية احتجاجات السترات الصفر في فرنسا وبركسيت في بريطانيا وغيرهما في دول اوروبا الشرقية.
لو اردنا أن نبين سرعة التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي هذه الايام لقلنا أن هذا التغيير يتناسب تناسباً طردياً مع سرعة تنقل المعلومات والافراد التي جعلت من العالم قرية صغيرة. فبينما بقي الحصان اسرع وسيلة نقلٍ منذ بداية التاريخ حتى ما قبل مئتي عام بل وكانت فرق المشاة في الحرب العالمية الاولى قبل مئة عام فقط على الحصن انتهت بدخول سلاح الدبابات والطائرات الى الجيوش . وانتقلت الاتصالات من سرعة الحصان الى الحمام الزاجل الى التلغراف والى سرعة الضوء اليوم اي 186000
ميل في الثانية . وبينما كان الاعلام الحكومي يهيمن على المعلومات لغسيل دماغ الشعوب اصبحت وسائل التواصل الاجتماعي خياراً بديلاً للجماهير .
ما نود قوله هنا أن راعية النظام الرسمي العربي والكيان المحتل وهما جزءٌ من منظومة واحدة يشوبها الوهن، فالولايات المتحدة لم تربح حرباً واحدةً خاضتها خلال هذا القرن . وهناك تغييرات عميقة تنتابها في الداخل وهي مشغولةٌ بنفسها تحاول لملمة امبراطوريتها بأقل الاضرار . وكما كان الحال في الاتحاد السوفياتي الذي انهار من الداخل فسيكون الامر نفسه بالنسبة للامبراطورية الامريكية وسيكون ذلك على الاغلب عبر سكتة قلبية اقتصادية .
ما يهمنا في هذا الشرح هو ما كان يقوله غوار الطوشة : اذا اردنا ان نعرف ماذا في روما فعلينا أن نعرف ماذا في البرازيل. اي اذا اردنا ان نعرف ماذا سيحدث في منطقتنا فعلينا ان نعرف ماذا يحدث في واشنطن -رأس الافعى . فهي المشغلُ للنظام الرسمي العربي وهو اليوم اصبح مشغولاً بنفسه يلملم اطراف امبراطوريته . فهو غير مستعد ان يحارب من اجل الاخرين . لذلك فهو يسعى الى تكوين الاحلاف في منطقتنا لتكون جيوشها وبترودولاراتها وقوداً لتنفيذ مصالحه وقد اوكل عملية التشغيل والمرجعية لهذه الانظمة الى الكيان المحتل . لكن هذا الكيان هو ايضاً مأزومٌ بطبيعته. ودول الحلف العربي الصهيوني المقترح يتكون من انظمةٍ فاشلة تترنح يميناَ وشمالاً يطلب اصحابها النجاة من انتفاضات وثورات شعوبها في كل مكان.
يختلف (الربيع العربي الثاني) بأن له قيادات اكثر وعياً من الربيع الذي تم افشاله . فالربيع الاول قَبلت الشعوب بتسليم امورها الى الجيوش فاصبحت كالذي يداوي الداء بالداء . اما حركات هذه الايام تبدو وكأن اهدافها اكثر وضوحاً وانها اكثر اصراراً لتكنيس الانظمة الفاسدة.
بينما تنهار الامبراطوريات في الغرب نشأت في عالمنا العربي امبراطوريات افتراضية اصبحت فرانكشتاين العالم العربي بعضها لا يتجاوز عدد سكانها عدد سكان المقابر في القاهرة! وهذه الانظمة هي مأزومة . فلذلك بدأت تتعلق بالاوهام والاحلام بالجهر عن تحالفها مع الكيان المحتل جهاراً نهاراً وخصوصاً لان ذلك الكيان قد اصبح هو مرجعيتهم وليس الولايات المتحدة .
المشكلة ان الكيان المحتل نفسه مأزوم لأكثر من سبب احدها أن حبل وريده ايضاً في الولايات المتحدة في مرحلة انحدار بالاضافة الى اسباب عديدة أخرى . قد يقول قائل إن الكيان اليوم هو في اقوى مراحلة فهو يسيطر على البيت الابيض الذي حقق له كل ما يريد سواءً من العقوبات على ايران واهداء القدس التي لا يملكها لمن لا يستحقها وشرعنة احتلال اراضي الغير وضمها كما في الجولان وكما سيتم في الضفة الغربية ومستوطناتها . ولستُ هنا ادعي أن هذا الكيان زائلٌ لا محالة من باب التمني ولكنني اعتمد على حقائق الحاضر والتاريخ ومنها :
· تتغير ديموغرافيا الكيان المحتل من سيء الى أسوأ . كان مؤسسو الكيان من الصهاينة الغربيين بمعظمهم كما كانت اغلبية المهاجرين منهم . اصبح اليهود الشرقيون هم الاغلبية ابتداء من سنة 1967 وهم اقل علماً وثقافة واكثر حقداً وعنصرية . وهؤلاء هم جمهور الليكود . استولى الليكود على السلطة للمرة الاولى سنة 1977 بقيادة مناحييم بيغن. وبقيت الحكومات الصهيونية تزداد عنصرية وتطرفاً سنة بعد سنة مروراً باسحاق شامير وآرئيل
شارون وبنيامين نتنياهو . كافة الاحزاب الجديدة اصبحت اكثر تطرفاً وعنصرية من الليكود وخصوصاً بعد قدوم اكثر من مليون مهاجر روسي . واعتقد أن التاريخ سيذكر ان بداية نهاية الكيان المحتل قد بدأت مع بداية صعود نتنياهو الى السلطة . حاول المعتدلون في الولايات المتحدة اقناع نتنياهو بحل الدولتين لان البديل هو دولة فصل عنصري (ابرتيد) وأن التاريخ قد اثبت أن مثل هذه الدولة لا تستطيع البقاء كما في جنوب افريقيا، بل وأن الاستعمار الاستيطاني محكومٌ بالفشل والهزيمة كما في الجزائر بعد 132 سنة .
إن الكيان المحتل والنظام الرسمي العربي هما توأمان جاء بهما الاستعمار قبل مئة سنة لم يكن ممكناً للكيان المحتل أن ينشأ ويترعرع دون مساعدة النظام الرسمي العربي ما ظهر منها وما بطن . لكن هناك عوامل اخرى ستساعد على انهيار ذلك الكيان . كانت استراتيجية حروبه التوسعية تعتمد على ثلاثة مبادئ وهي اولاً ان تكون الحروب خارج حدوده. وثانياً ان تكون الحروب قصيرة لان جيشه يعتمد على اسلوب الجيش الشعبي الذي يُعطلُ الحياة الاقتصادية اثناء التعبئة للحرب وثالثها انه كان يحارب ضد جيوش انشأت للحفاظ على الانظمة لا للدفاع عن الاوطان . وتغيرت هذه المبادئ . حروب اليوم والغد ستكون حروب المقاومة والحروب الطويلة وستكون هذه الحروب داخل حدود الكيان المحتل وستتعرض جبهته الداخلية الى ما لا يستطيع أن يتحمل نتائجها. قوة ذلك الكيان كان في ضعفنا وفرقتنا الممنهجتين .
حينما اراد صلاح الدين الايوبي تحرير فلسطين والقدس بدأ اولاً بتطهير الداخل وتوحيده لفترة استمرت لعشرات السنين، بعدها قام بإقتلاع الغزاة الصليبين !
مستشار ومؤلف وباحث